“كوشيب”.. هل يصبح شاهد ملك ضد عبد الفتاح البرهان وحميدتي ؟

وهذا يعني ضمنياً أن شهادته سوف تمس ضباطا ما زالوا في الخدمة، بل ربما يورط الرجل رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان حميدتي، باعتبار أن لديهم علاقة وطيدة

 

على نحوٍ مفاجئ أعلنت المحكمة الجنائية الدولية توقيف الزعيم السوداني القبلي على كوشيب المطلوب لديها منذ العام 2007، ولعل أغرب ما في قصة كوشيب أنه ظل يحتمي بعشيرته في دارفور خشية تسليمه للجنائية، ومع ذلك أقدم على خطوة جريئة، عندما تسلل خِلسة إلى أفريقيا الوسطى ليسلم نفسه طوعاً إلى المدعي العام هناك، كما لو أنه حصل بالفعل على ضمانات سرية، أو بات أقرب إلى لعب دور شاهد ملك يشي بآخرين هم في سدة السُلطة الانتقالية حالياً.

صندوق الشرور

وبالرغم من أن كوشيب متهم بالاغتصاب والعنف وجرائم حرب في دارفور، فإنه هو المتهم الوحيد تقريباً الذي ظل مُطلق السراح بعد الثورة، وبمثوله مطلع هذا الأسبوع، ربما يفتح (صندوق الشرور) ضد قادة عسكريين مُحتملين، لا سيما وأن الجيش السوداني أعلن أكثر من مرة أنه لن يسلم أحداً للمحكمة الجنائية إطلاقاً، ويدعم المحاكمات الوطنية، بينما موقف الشريك المدني ممثلاً في قوى الحرية والتغيير مناقض لذلك، حيث ينشد عدالة الرجل الأبيض، ما يعني انفتاح جبهة صراع داخلية حتمية، بين المكون المدني والمكون والعسكري .

احتفت المدعية العامة للمحكمة الجنائية فاتو بنسودا بخطوة كوشيب حفاوة بالغة، واعتبرتها تجسيد لمرونة ومثابرة العدالة، في وقتٍ كانت قد تلقت محكمتها أمس الأول صفعة قاسية من قبل الحكومة الأمريكية، حد فرض عقوبات على الجنائية، ووضع قيود إضافية على تأشيرة دخول موظفيها للأراضي الأمريكية، ما يعني أن هذه المحكمة التي تحولت إلى أداة قهر ضد الشعوب الضعيفة، والدول الأفريقية على نحوٍ خاص، لا تملك من أمرها شيئاً، ومهيضة الجناح أمام جنرالات الحرب في أمريكا وإسرائيل، وبالتالي تستأسد فقط على البعض، مأخوذة بجريرة الازدواجية المفضوحة .

من وراء صفقة التسليم ؟

ولعل ذهاب كوشيب إلى هنالك، تحت غبار التفاصيل الخفية، التي جعلت الرجل يخلي مكتبه فجأة في قوات الاحتياطي المركزي التابعة للشرطة بمنطقة “رهيد البردي” ويغادر إلى ولاية جنوب دارفور، حيث عشيرته، ثم يفر إلى دولة أفريقية مجاورة طلباً للعدالة، تفاقم الغموض أكثر فأكثر، وتثير عاصفة من الاستفهامات، لأن كوشيب أقل حساسية في التعامل مع هذه القضايا، وهو بحكم المهام التي كان يقوم بها على الأرض، غير منفتح على قنوات تواصل خارجية، ما يعني أن هناك وسيطا أو سمسارا كبيرا وراء صفقة تسليم كوشيب، فضل حجب هويته .

يعتبر علي كوشيب القائد الجنجويدي كما يصفه الإعلام الغربي، حلقة وصل مهمة بين قادة عسكرين كان يعمل تحتهم، بل يأتمر بأمرهم مباشرة في التصدي للحركات المتمردة بدارفور مُنذها، وبالتالي فهو لم يكن يتعامل مع البشير وعبد الرحيم محمد حسين أو حتى أحمد هارون مباشرة، وإنما مع قادة القوات المسلحة على الأرض وفقاً للتراتبية العسكرية، وهذا يعني ضمنياً أن شهادته سوف تمس ضباطا لا زالوا في الخدمة، بل ربما يورط الرجل رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان حميدتي، باعتبار أن لديهم علاقة وطيدة بمسرح الاحداث في دارفور، وهو غالباً الهدف الذي سحب بموجبه كوشيب إلى لاهاي بشكلٍ مُباغت، ليقوم بدور شاهد ملك ضد من يمسكون بزمام الأمور الأن في السودان .

 وهذا يعني إضعاف المكون العسكري لصالح المكون المدني، بصورة واضحة، فضلاً عن أن قوى الحرية والتغيير التي تعاني من هيمنة الجيش على السُلطة، وتريد إزاحته بأي وسيلة، من المستفيدين في حال تم عرقلة قادة المجلس السيادي، أو محاصرتهم بهواجس المطاردة الدولية، كما حدث للبشير بالضبط. فهل يعني هذا أن التحالف الحاكم متورط في دفع كوشيب لهذا الخطوة بالتعاون مع جهات خارجية ؟

صيد ثمين

وفقاً لذلك فإن كوشيب هو صيد ثمين لمن يقف خلف الجنائية، ليس لأهميته العضوية، وإنما لأهمية ما يتأبطه من أسرار ومعلومات تتعلق بحرب دارفور، ولعل ظهوره في هذا الوقت تحديداً وبين يدي وصول بعثة دولية للسودان ”يوناميتس“ ليدلي بشهادته، أو يترافع عن نفسه، وهو أقل المطلوبين للجنائية أهمية، ينذر على الأرجح بشرر لما يعرف بالمكون العسكري داخل المجلس السيادي، الذين وضع على عاتقهم حماية تعهدات المؤسسة العسكرية، إلى جانب أن مثول كوشيب ربما يفتح بشكلٍ واسع اتهامات لأشخاص جدد غير مشمولين في القائمة القديمة، ما سيترتب على ذلك قائمة جديدة ربما ضمن مراكز القوى حالياً.

الرباط الخانق

من المهم الإشارة إلى أن المحكمة الجنائية لا تحفل كثيراً بأشخاص خارج مقاليد التأثير المباشر، وهى أشبه بالرباط الخانق، يتم إحكامه على رقبة المسؤول الأول في الدولة دون خنقه تماماً لتمرير أجندة خارجية، كما حدث للبشير الذي فقد أهميته نسبياً للجنائية عندما خُلع من منصبه، وهو حالياً قابع في سجن كوبر، لا توازي التحركات الحالية للقبض عليه كثافة وتركيز التحركات السابقة، لدرجة أن هبوط طائرته في مطار أي دولة كان حدث مثير في حد ذاته .

وهذا يعني أن المحكمة الجنائية لا تطلب المسؤول في دول العالم الثالث وإنما منصبه، ومتى فرغ هذا المنصب، ظل الحبل الجنائي يتدلى فوق الكرسي الرئاسي الذي قطاً سوف يتسنمه شخص أخر، وهذا لا يعني أن المطلوب للعدالة بلا اتهامات، وإنما يساعدهم في كثير من الأحيان بارتكاب المزيد من الانتهكات والحماقات.

 وقياساً على ذلك فإن الرئيس أو أي قائد أفريقي يخوض حروبات البقاء بكل خسائرها، هو المفضل لدى الدول الأوربية التي تقف وراء المحكمة الجنائية، إذ توظفها للابتزاز السياسي، أو ما يشابه الخضوع الاستعماري، أو على نحوٍ أكثر دقة، توظفها لتحقيق مصالحها .

منحى البشير

من المهم الإشارة إلى أن البشير نحى منحى صداميا في التعامل مع مدعي الجنائية، لويس أوكامبو في الأول وبعده فاتو بنسودا، بتوجيه اتهامات لهما بالتآمر ضد بلاده، قائلًا في أكثر من خطاب جماهيري “أقول لهم جميعًا مدعي المحكمة الجنائية وأعضاءها ومن ساندهم، كلكم تحت حذائي”. ومع ذلك كان أحياناً في متناول يد المحكمة الدولية عندما هبط في عواصم خارجية مؤيدة لها، بل لعل أكثر ما يدهش أن السفير الأمريكي في الخرطوم الذي ترفض بلاده الاعتراف بالجنائية ظل ينصح الحكومة السودانية بتسليم المتهمين للجنائية، بشكل مؤغل في السخرية! ويدل على أن القصد ليس هو العدالة، وإنما تسخير المحكمة لأهداف ومخططات غير بريئة .

أجنحة الخوف

عطفاً على ذلك ينظر عدد من الزعماء السودانيين إلى أهمية البحث عن صيغة أخرى لمعالجة الأزمة الدارفورية وآثارها الجنائية، من بينهم الصادق المهدي رئيس حزب الأمة الذي اقترح “إجراء عدالة انتقالية عن طريق محكمة هجينة مختلطة أو مفوضية للحقيقة والإنصاف” على غرار ما حدث جنوب أفريقيا.

وبالتالي فإن مثول كوشيب من داخل قفص المحكمة الجنائية في لاهاي ليس هو نهاية الشوط، وإنما مقدمة لماراثون طويل سوف تتقطع أنفاس قادة الجيش السوداني قبل بلوغ خط النهاية، بوضعهم تحت خوف وضغط نفسي رهيب، وتسخيرهم بعد ذلك، أو بفرضية الشاعر الروماني فرجيل “الخوف يضع أجنحة للنعال” .

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه