“كورونا” وأهمية أن تكون مواطنا تركيا

قامت الحكومة التركية بتوفير أعلى معدل للرعاية الصحية للمسنين الأتراك، الأمر الذي أدى إلى تعافي الكثيرين ممن أصابهم المرض منهم رغم تخطي أعمارهم الثمانين عاما.

بحزمة من الإجراءات الوقائية شديدة التعقيد تستعد تركيا خلال الأيام المقبلة لإعادة مواطنيها إلى نسق حياتهم الطبيعية بشكل جزئي تحت اسم ” حياة اجتماعية منضبطة”، بعد أن أعلن وزير الصحة فخر الدين كوجة نجاح بلاده في تحجيم انتشار وباء كورونا، والحد من عدد الإصابات وانخفاض عدد الوفيات مقابل ارتفاع حالات التعافي من الفيروس، منهية بذلك المرحلة الأولى من مراحل مكافحتها ضد الفيروس.

نموذج يجب أن يُحتذى:

تعامل الحكومة خلال المرحلة الأولى لمكافحة الفيروس، والتزامها مبدأ الشفافية في كشف كافة الحقائق المرتبطة بتطورات انتشار الوباء، والإعلان يوميا عن أرقام الإصابات والوفيات مهما كانت مرتفعة، وتوظيفها كافة إمكانيات الدولة المالية والإنتاجية في تلك الحرب، ومد يد العون للدول الأخرى التي طلبت مساعدتها جعلت من التجربة التركية نموذجا يجب أن يُحتذى من جانب الدول التي لا تزال تحارب ذلك الوباء في مرحلته الأولى.

فعلى الصعيد الداخلي سارعت تركيا فور الإعلان عن الفيروس بإنشاء “المجلس العلمي لمكافحة كورونا” التابع لوزارة الصحة، مهمته متابعة تطورات انتشار الفيروس داخليا، والتواصل مع المراكز العلمية الدولية لتبادل المعلومات والخبرات في مجال المكافحة، ووضع الاستراتيجيات اللازمة لتحجيمه والعمل على إيجاد العلاج المناسب له.

وتزامنا مع ذلك أخذت الدولة على عاتقها مهمة إجراء الفحوصات الطبية وعلاج جميع المرضى والمصابين دون تمييز، مع تأمين حجر صحي داخل المستشفيات مجانا لجميع الأتراك الذين تم إجلاؤهم رغم ارتفاع عددهم لأكثر من 65 ألفا، إذ قامت الخطوط التركية بتنظيم 157 رحلة خاصة لإعادتهم من 103 دول كانوا عالقين فيها بسبب تداعيات فيروس كورونا.

نظرة الدولة للمواطن:

وفي لفتة توضح مدى أهمية المواطن لدى بلده، ومدى التزام الدولة تجاه مواطنيها الذين تعتبرهم ثروة قومية لا يجب التفريط فيها، أو التعامل بلامبالاة تجاهها، تابعت وزارة الخارجية التركية الأتراك الذين توفوا في الخارج، ورصدت عددهم وطريقة دفنهم، كما قامت عدة طائرات خاصة بإعادة أتراك مصابين فعليا بالفيروس، لتلقي العلاج في تركيا مثلما حدث مع مريض بالسويد وآخر في السودان، إذ تم إرسال طائرتي إسعاف خاصة لإعادتهما إلى تركيا على نفقة الدولة لتلقي العلاج بها بعد أن فشلا في العلاج حيث كانا.

إلى جانب توفير الكمامات في الصيدليات وتوزيعها دون مقابل، وتقديم حزمة من المساعدات المالية العاجلة لثلاثة شهور للمواطنين الذين توقفت أعمالهم نتيجة الحظر الذي قوض الحركة في الشوارع.

وبينما سمعنا تصريحات لكبار المسؤولين في دول العالم مثل: فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، بشأن قرارهم التضحية بكبار السن لديهم وتركهم بمفردهم ليلاقوا حتفهم، لصالح فئة الشباب وصغار السن، الذين يحتاجهم المجتمع أكثر، قامت الحكومة التركية بتوفير أعلى معدل للرعاية الصحية للمسنين الأتراك، الأمر الذي أدى إلى تعافي الكثيرين ممن أصابهم المرض منهم، رغم تخطي أعمارهم الثمانين عاما، كما أولتهم رعاية اجتماعية خاصة عبر تشكيل مجموعات ” الوفاء للدعم الاجتماعي”: تلك المجموعات التي تولت على مدى شهرين ونصف الشهر تقريبا مهمة تلبية احتياجاتهم الغذائية والعلاجية حتى لا يُضطروا إلى الخروج من منازلهم، خوفا عليهم من احتمالات الإصابة بالفيروس، مما قد يعرض حياتهم لخطر الموت.

استثمار كورونا:

ورغم خوضها تلك المعركة، وانشغالها في مواجهة انتشار الفيروس، لم تنس الحكومة حيوانات الشوارع، فتم توجيه البلديات لتوفير احتياجات تلك الأرواح البريئة من الطعام والشراب في ظل طول فترات الحظر التي حالت بين المواطنين واستمرار قيامهم بتلك المهمة الإنسانية.

الحكومة التركية تعاملت بذكاء في معركتها الأولى مع وباء كورونا، إذ وظفته لإعادة اللُحمة وإحياء روح التكافل والتعاون بين أبناء الشعب التركي، عبر إطلاق حملة تبرعات تحت شعار” تركيا.. نحن نكفي بعضنا بعضا” وهي الحملة التي أظهرت معدن الشعب التركي، وأصالة منبته، وقوة وصلابة إنسانيته، حيث تسابق الجميع إلى مد يد العون ومساعدة المعوزين.

ولما كانت الإنسانية لا تتجزأ، وفي خضم انشغال العالم أجمع بمكافحة وباء كورونا، وإغلاق كل دولة حدودها على نفسها، نسي الجميع مشكلة اللاجئين العالقين على الحدود بين تركيا واليونان، الذين رفضت الأخيرة السماح بدخولهم إلى أراضيها، واستخدمت ضدهم الرصاص وخراطيم المياه الساخنة والغاز المسيل للدموع.

 وخوفا من كارثة انتشار وباء كورونا بينهم، بما يعرض حياتهم للخطر في ظل الظروف المأساوية التي يعيشون فيها على الحدود، قررت الداخلية التركية التدخل ونقل ما يقرب من 5800 شخص إلى تسع محافظات تركية وتسكينهم في ملاجئ تابعة للبلديات لحين انتهاء هذا الوباء.

مرحلة الحرية الجزئية:

أما على الصعيد الخارجي، وتحت شعار ” الإنسانية أولا” قامت تركيا بتقديم مساعدات طبية لأكثر من 60 دولة حول العالم بينها إيطاليا، بريطانيا، إسبانيا، صربيا، ليبيا، جنوب أفريقيا، الجبل الأسود، والبوسنة والهرسك، إلى جانب الدول التي قدمت لها مساعدات طبية وغذائية مثل شمال مقدونيا، فلسطين، رومانيا، لبنان، اليمن، العراق، باكستان، أفغانستان، قيرغيزيا، غينيا، والمكسيك.

عبور تركيا لهذه المرحلة بسلام، واستعدادها لدخول المرحلة الثانية لم يجعلها تركن إلى التهاون في الأمر أو التخلي عن مسؤوليتها تجاه شعبها، وإطلاق الأمور لمواطنيها دون ضابط أو رابط، بل حرصت على تحذيرهم من أن نجاح هذه المرحلة الجديدة يتعلق كسابقتها بعدة عوامل، أهمها وأبرزها: الالتزام بكافة التدابير الوقائية، واصفة إياها بمرحلة الحرية الجزئية في مواجهة الفيروس مع استمرار الالتزام بالتدابير الوقائية، والتي من أهمها ارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي في أماكن التجمعات، وعدم التراخي طبيا أو اللجوء إلى تخفيض عدد الفحوصات التي تجريها الدولة على المشتبه بإصابتهم بالفيروس خلالها.

 تُرفع لها القبعة:

الاهتمام بالمواطن وتوفير الحماية اللازمة له والعمل على مساندته والوقوف إلى جواره في محنته، وتوظيف كافة إمكانيات الدولة من أجل المحافظة على حياته مهما كان الثمن، جعل من التجربة التركية في مواجهة الأزمات نموذجا فريدا لما يمكن أن تفعله الدولة وتقدمه لمواطنيها أينما كانوا، دون حساب للمكسب أو الخسارة، وبما يوضح مدى التقدير والاحترام المتبادل في العلاقة التي تربط بين السلطة والشعب، الأمر الذي يجب أن يُثمن وأن تُرفع له القبعة.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه