كنت عضواً في لجنة الخمسين!

 

لم يخطر ببال أحد من الذين دعوا إلى قيام الهيئات الإعلامية الثلاث في مصر أن تكون تلك الهيئات في يوم ما أداة من أدوات القمع أو المنع أو الاستبداد؛ فحين سعى الإعلاميون والصحفيون في أعقاب ثوره يناير -وربما من نهايات عصر مبارك- للمطالبة بتكوين مجلس أعلى للإعلام، وهيئة وطنية للإعلام، وهيئة وطنية للصحافة كان سعيا منهم لاستقلال الصحافة والإعلام استقلالا ماديا ومعنويا على غرار المجلس الأعلى للإعلام في فرنسا، والهيئة الوطنية للإعلام على غرار هيئة الإذاعة البريطانية.

جاءت مواد الدستور المصري في ٢٠١٢ وفي ٢٠١٤ رقم ٢١١ و٢١٢و ٢١٣ لتؤكد على إنشاء المجالس الثلاثة: مجالس قومية مستقلة عن السلطة التنفيذية، وقد شهدت جلسات كتابة القوانين الثلاثة فيما بعد طموحات إعلامية كبيرة رغم الجو العام الذي أحاط بتلك الاجتماعات في عام ٢٠١٥ بصعود عبدالفتاح السيسي إلى رأس السلطة في مصر، وما جرى من اختيار شخصيات من عينة علي عبدالعال أو غيره من رجال عهد مبارك؛ لكن شهدت تلك الاجتماعات -التي كان أعضاؤها خمسين عضوا وسميت لجنة الخمسين للتشريعات الإعلامية وكنت واحدا من هؤلاء الأعضاء- مناقشات كثيرة بشأن استقلالية تلك الهيئات وحفاظها على حرية الإعلام والإعلاميين.

ثم دخلت تلك القوانين في أنفاق مظلمة لتخرج لنا قوانين أخرى غير تلك التي استمرت جلساتها أكثر من ثلاثة أشهر، ولتضع اليد العليا في التشكيل في يد السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية، وهو ما حارب بعض أعضاء لجنة الخمسين مثل: حمدي قنديل والسيد الغضبان وجمال عبد الرحيم وخالد البلشي وحسين عبد الرازق والفقيه الدستوري محمد نور فرحات ضده. ولكن مع تغير الأحوال من يناير وما بعدها إلى يونيو وما بعدها صار الحال هو الحال السابق مع مجرد تغيير في الأسماء من المجلس الأعلى للصحافة واتحاد الإذاعة والتلفزيون إلى اسماء جديدة نص عليها الدستور، ولكن بنفس التشكيل وبنفس الأشخاص تقريبا وبنفس مهام مؤسسات دولة الفرد الواحد المسمى رئيس الجمهورية الذي بيده كل شيء، ولنصل إلى مجالس يقودها رجال نظام مبارك وليأتي على رأس المجلس الأعلى للإعلام مكرم محمد أحمد صاحب الثمانين عاما ورجل مبارك.

خلال سنوات أربع منذ تشكيل هذه المجالس مثلت تلك المجالس عائقا امام حرية الصحافة والإعلام، ولم تضبط مره واحده تدافع عن حرية صحفي أو إعلامي بل صارت أدوات تأديب لهؤلاء. لم يقلق الهيئات وأعضاؤها حبس الصحفيين ولا فصل إعلاميين ولا توقف صحف ولا حجب مواقع بل ساهم هؤلاء جميعا في الإبلاغ عن موقع هنا وصحفي هناك ومذيع هنا وصحيفة هناك بأنهم قد خرجوا عن المألوف لديهم من فروض الولاء والطاعة، ولم لا؟ وقد اختارت أجهزه الأمن الأغلبية فيهم بناء على الولاء للنظام والرئيس!

مواقع التواصل تقلق الأعلى للإعلام

لم يقلق التضييق على الصحافة والصحفيين والإعلام والإعلاميين مكرم محمد احمد، ولم يقلق سباته العميق بعد معركته الشهيرة في مبنى ماسبيرو على مكتب الوزير ومكاتب الوزارة أي أحداث في مصر سوي مواقع التواصل الاجتماعي وحرية المواطن، فسعى بكل تاريخه القديم الحديث وخبراته عبر ٦٠ عاما من الصحافة أن يبحث عن وسيلة للحد من تلك الحرية.

في الأسبوع الماضي خرج علينا مكرم محمد احمد ببيان يحظر على المصريين الكلام في أربعة موضوعات رئيسية إلا من مصادرها الرسمية وعدم نشر أي أراء متعلقة بها أو معلومات أو بيانات. تلك الموضوعات هي: سد النهضة، الأحداث في سيناء، أحداث ليبيا، ووباء كورونا.

قد حظر البيان على الصحف والمواقع الإخبارية نشر أي اخبار عنها، وكذلك على الصحفيين والإعلاميين أخذ أي أخبار إلا من مصادرها الرسمية أو من خلال بيان رسمي معللا ذلك بالأخطار التي تمر بها البلاد والظروف السياسية لمصر وكذلك يحظر على المصريين تناول تلك الموضوعات على مواقع التواصل الاجتماعي كافة.

يذكرنا هذا بقصيدة الممنوعات للشاعر المصري احمد فؤاد نجم والتي يقول فيها:

ممنوع من السفر

ممنوع من الكلام

ممنوع من الابتسام

ممنوع من الاشتياق

ممنوع من الاستيلاء

وكل يوم أحبك تزيد الممنوعات

وكل يوم بحبك أكتر من اللي فات!

هكذا يمنع مكرم محمد أحمد المصريين من كل شيء تحت شعار الظروف السياسية!

 كم من سنوات مرت ظل المصريون لا يتحدثون في أحوالهم وآلامهم ومصائبهم تحت هذا الزعم الذي لا ينتهي: الظروف التي تمر بها البلاد! ومتى كانت الظروف تسمح للمصريين بمناقشة ما تمر به البلاد؟!

 وأي وقت سيكون للمصريين الحق في معرفة ما تمر به البلاد من ظروف بشفافية؟  وإلى متى يعتبر مكرم محمد أحمد ومجلسه أن الشعب المصري لا يستطيع أن يتحدث في أحواله وأحوال معيشته؟!
 وهل كلام طبيب عن أحوال المستشفيات في جائحة كورونا يكون سببا في اعتقاله؟ وهل من المعقول أن يعلق صحفي على غلاف لمجلة بشكل مهني يدفع رئيس المجلس المنوط به حماية الصحافة وحريتها إلى المطالبة بالقبض على زميله؟

 لقد ظن المجلس ورئيسه ان طلبهم من النيابة العامة في بيانهم الصادر منذ أيام سيجعل المصريين يصمتون ولا يتحدثون إلا بكلام البيانات الرسمية وقيادات النظام..
 وها هو عبد الفتاح السيسي يخرج علينا في مناورة عسكرية على حدود مصر الغربية ليتحدث عن الأوضاع في ليبيا ومتغافلا وضعا أكثر سوءا في إثيوبيا بسبب سد النهضة!

رغم إيماننا أن حدود الأمن القومي على كافة محاور الحدود لا تنفصل؛ لكن السيسي ونظامه فصلها عندما تخلى عن تيران وصنافير.. وحينما وقع على اتفاقية إعلان المبادئ بالخرطوم، وعندما أعاد ترسيم الحدود البحرية مع اليونان وقبرص.. وعندما حاصر غزة ولم يصدر بيانا عن الدولة المصرية بعد اعلان نتنياهو ضم ٣٠٪ من اراضي الضفة الغربية الي الكيان الصهيوني! فكل هذه حدود للأمن القومي المصري؛ فلماذا لم يستعرض السيسي ونظامه قواتنا المسلحة على تلك الحدود ولماذا تنازل هو نفسه على تلك الحدود؟

هل يظن مكرم محمد أحمد ببيانه ومطالبته للنيابة العامة بالقبض على المصريين الذين يتناولون الموضوعات الأربعة الخطيرة في حياة المصريين أننا سنصمت ولن نتحدث فيها؟!
لقد كانت وجهة نظر قاصرة فقد اشتعلت المناقشات على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن أغلقت كافة الصحف والمواقع لتناقش أعلى رأس في النظام فيما قاله عن الحدود الغربية وتعارضه وتحلل و تفسر رؤاها بأن الجنوب والمياه وإثيوبيا أخطر وأهم في الوقت الحالي من معركة بلا طائل في ليبيا بالغرب أو حتى اهتمام؛  فالأولى الاهتمام بمعركة العطش والمياه وسد النهضة.

إن من يعتقد أن استمرار الإغلاق والكبت والسجن والاعتقال هو سبيل لاستمرار النظام هو شخص واهم، ومن يعتقد أن استعراض القوة بلا حدث حقيقي هو نوع من الإلهاء عن قضايا حقيقة لا يعرف دروس التاريخ ولا يعي ما مر به من تجارب؛ فلم يكن الإغلاق والكبت والاستبداد والسجن والاعتقال والمشاهد الاستعراضية في يوم ما سببا لاستقرار الأنظمة التي تتخذ من تلك الأساليب طريقا لاستمرارها.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه