كفانا فرقة وانقساما… الوطن لا يحتمل

 

 

عندما أطلق الناشط السياسي جورج اسحق تصريحه الذي انتقد فيه المعارضين من الخارج وطالبهم بالعودة للمعارضة من مصر، ارتفعت نبرات معارضة لرأيه ونبرات مؤيده.

وعندما قام بعض النشطاء السياسيين بتقسيم المجتمع المصري إلى كبار سن مستسلمين وشباب ثوريين، آثار هذا التقسيم غضب البعض ورضا البعض الآخر.

وعندما تطفو على السطح تقسيمات لفئات المجتمع على أساس المنشأ ما بين صعيدي وفلاح أو على أساس ديني ما بين مسيحي ومسلم، فهذا أمر يثير بعض المشكلات.

ما أتوقف أمامه عند التفكير في هذه الأمور هو الدوافع الفكرية والثقافية لدى أصحاب هذه الرؤى والتي تجعلهم يشتتون المجتمع في قضايا ومشكلات فرعية على حساب غض البصر عن موضوعات رئيسية ومصيرية، ولن أتطرق إلى النوايا معتبراً أن كل هذا يتم تحت مظلة سلامة النوايا.

انتهازية كبار السن

تجادلت كثيرا في موضوعات التقسيم العمري لعواجيز انتهازيين وشباب ثوري وكل الأطراف في هذا الخلاف تستند إلى أدلة ساذجة وواهية ومغرضة، ربما صورة لمسن يرقص أمام لجان انتخابية وتستخدم كدليل على انتهازية كبار السن، وفي المقابل صورة لشاب يضع البيادة فوق رأسه، وتستخدم كدليل لسطحية الشباب، ولا يدرك الجميع أن كلا من الصورتين يشكلان صورة غير حقيقة للمجتمع المصري ويخفي الصورة الحقيقة والمشهد الحقيقي الذي يظهر فيه مصريون من كبار السن افنوا عمرهم في الدفاع عن الوطن وشباب ضحوا بأجمل أيام حياتهم ما بين أسر ومطاردة من أجل كلمة حق في وجه سلطان جائر، والمستفيد الوحيد من هذا الصراع المفتعل هو السلطان الجائر!!

أما عن التفريق والتميز على أساس ديني فحدث ولا حرج فهو سلاح مضمون المفعول لدى الحكام والأنظمة الفاسدة والفاشية التي تسيطر به على شعوبها وتستخدمه في أوقات محسوبة لتفريق وحدة الشعوب وإخضاعها، استخدمها أنور السادات عام 1981 من خلال إشعال فتنة الزاوية الحمراء في مواجهة ارتفاع موجة الرفض والغضب الشعبي لسياسة الحكومة والنظام، واستخدمها مبارك من خلال وزير داخليته حبيب العادلي وهي الأحداث المعروفة بأحداث كنيسة القديسين، الشاهد أن التقسيم الطائفي هو أخطر أنواع تقسيمات المجتمع وأكثرها ضررا.

هجرة إيزيس

ما علينا لنعود إلى موضوعنا الذي بدأنا به هذا المقال وهو التفريق بين المعارضين من الخارج والمعارضين من الداخل، وهو من أغرب موضوعات التقسيم لأنه لا يتعلق حتى بموضوع المعارضة أو منطقه وإنما يحدد الموقف من الشخص المعارض على أساس موقعه الجغرافي!!!

مندهش من هذا التصنيف الذي يتعارض مع المنطق التاريخي والإنساني الفلكلوري والديني!

تقول الأسطورة المصرية إن «إيزيس» هاجرت بحثا عن جثة زوجها «أوزوريس» الذي قطعها إله الشر «ست» إلى 42 قطعة وفي رحلتها أنجبت الابن «حورس» الذي قام بإحياء عملية تجميع جثة أبيه «أوزيريس» وإعادتها للحياة، والأسطورة ترمز إلى معان كثيرة ما يتعلق بموضوعنا منها هم أن الأمل والهدف من كفاح «إيزيس» في مواجهة إله الشر «ست» قد تحقق خارج وطنها الذي شهد الجريمة الأولى.

جاء في الإنجيل أن يسوع ومريم العذراء ويوسف النجار هاجروا من بيت لحم إلى مصر هروبا من الملك «هيرودس» الذي أراد قتل المسيح بعد أن علم أن من صفاته أنه ملك فخاف «هيرودس» على ملكه، وعندما علم يوسف النجار بنية الملك عن طريق الوحي هرب بالمسيح ومريم العذراء وهاجروا لمصر حتى مات «هيرودس» وتحققت الصفات وعاد المسيح للناصرة.

لما اشتد أذى الكفار برسول اللهﷺ ورفاقه فكر الرسول ﷺ في الهجرة ليس جبنا وإنما تخطيطا لتجنب أذى الكفار والاستعداد للعودة المنتصرة والتي تحققت في فتح مكة.

هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الطائف ثم الهجرة الكبرى إلى المدينة والتي كانت بدايتها هي بداية التقويم الهجري، ولم يتهم أحد الرسول ﷺ بالهروب من الوطن أو المعارضة من الخارج ولم يذكره التاريخ هارباً أو خائناً لقومه، بل كانت رحلته وهجرته هو ورفاقه رحلة كفاح وجهاد أسست للدعوة ونشر الرسالة وانتشار الإسلام، وعاد الرسول ﷺ ورفاقه إلى مكة فاتحا منتصرا بعد أن حققت الهجرة انتصاراً غير وجه الدنيا كلها.

لينين يقود الثورة من الخارج

في بدايات القرن العشرين ظهر السياسي والحقوقي المصري محمد فريد ليحمل راية استقلال الوطن وتعرض للمحاكمة، واضطر للخروج من وطنه إلى أوربا، وتنقل بين بلادها بإمكانياته المحدودة وعاش حياة قاسية وكان له دور كبير في الدعاية للقضية المصرية، وتعرض محمد فريد لضغط نفسي بعد خطاب من ابنته فريدة طالبته فيه بالعودة للوطن جاء فيه «لنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكموا به على الشيخ عبد العزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم… وأختم جوابي بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية، التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن»، وعاد محمد فريد تحت الضغط النفسي وقضى 6 أشهر في السجن لم يقدم خلالهم أي فائدة لوطنه، على عكس ما قام به وهو في الخارج من الدعاية لقضية الوطن.

اضطر القائد الشيوعي فلاديمير إليتش لينين زعيم الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م إلى الخروج من وطنه عدة مرات قبل الثورة متنقلا بين سويسرا وباريس مجاهدا ضد الحكم القيصري في روسيا إلى أن عاد لوطنه عام 1917 قائدة للثورة البلشفية التي قضت على حكم القياصرة وأسست للاتحاد السوفيتي كقوة عظمى، وكان نضال «لينين» خارج الوطن اللبنة الأساسية للثورة ولم يتهمه رفاقه داخل الوطن بعار المعارضة من الخارج، بل كان من هم في خارج الوطن مكملين وداعمين لنضال من هم داخل الوطن، ولم ينشغل الثوار الروس بقياس حجم وطنية كل واحد منهم أو الفرق بين مناضل الداخل والخارج بل تركز اهتمامهم في التنظيم لثورة تقضي على حكم القياصرة، ولهذا نجحت ثورتهم.

والخميني أيضاً

لم يكن نفي آية الله الخميني عقبة أمام سيطرته على مقدرات الأمور في إيران وتأثيره على حركة المعارضة للشاه حتى قامت الثورة الإيرانية وأطاحت بشاه إيران وأصبح الخميني قائد الثورة الإسلامية ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية عام 1979 م

لنكتفي بهذه الأمثلة ونقف عند الشاهد من الكلمات السابقة وهي أنه لا يوجد تقسيم بين معارض خارجي ومعارض داخلي، ولا يوجد تشريف للمعارضة الداخلية وتحقير للمعارضة الخارجية، والمعارضة الحقيقة تتحدد بأهدافها ورؤيتها وقدرتها على تحقيق التغير في المجتمع سواء من الداخل أو الخارج، كفانا فرقة وانقسامات… الوطن لا يحتمل.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه