كردستان وكتالونيا .. الإخوان وحماس

هذا العنوان قد يبدو متداخلاً، ويعكس قضايا كبيرة، وهذا صحيح، إنما الذي جذبني في صياغة تلك الخلطة السياسية القومية الفكرية الأيدلوجية الجدلية رابطاً رأيته مهماً ويجمعها كلها، وهو قوة الدولة وضعفها، ودقة الحسابات وخطأها، كيف ذلك؟

قضية استقلال إقليم كردستان في العراق، وإقليم كتالونيا في إسبانيا كان اختباراً صعباً لقوة أو ضعف الدولة في الحالتين، كان تحدياً حقيقياً لهما، إسبانيا دولة قوية، تصدت لرغبة الانفصاليين، وحاصرتهم بكل السبل السياسية والديمقراطية والأمنية والقانونية حتى أوقفت اندفاعهم، وانتصرت في المعركة حتى حين، فالرغبة الشعبية لن تهدأ لتأسيس جمهورية كتالونيا المستقلة، لكن ليس بالضرورة أن تكون كل الرغبات والأحلام قابلة للتنفيذ، وهذا ما يجب أن يكون قد استوعبه الأكراد في العراق والدول المجاورة، إذ أن ضعف الدولة في العراق على عكس قوة الدولة في إسبانيا لم يكن عاملاً مساعداً لتحقيق استقلال كردستان، قاوم العراق ضعفه وأزماته الداخلية ودافع عن وحدة ترابه الوطني، ولو لم يكن فعل ذلك لكانت نزعات انفصالية أخرى قد سلكت طريقها، وقد ساهم في إنتشال العراق من حالة العجز التي يعيشها موقف تركيا وإيران الحاسم ضد الاستفتاء لأن مخاطر الانفصال تتهددهما أيضاً.

وصلت مغامرتا الإقليمين إلى حائط مسدود، وهرب قائديهما من المسؤولية، كردستان عرض تجميد نتيجة الاستفتاء والحوار، وبغداد لا تقبل بأقل من الغاء النتيجة والاستفتاء أولاً، ومسعود البرزاني ترك رئاسة الإقليم، فقد انكسر حلمه في أن يكون أول رئيس لأول دولة كردية في التاريخ، وفي كتالونيا لم تُلغ نتائج الاستفتاء فقط، بل ألغت مدريد سلطة الحكم الذاتي في الإقليم، وحلت الحكومة والبرلمان، وهرب رئيس الإقليم كارلوس بوجديمون إلى بلجيكا.

في الحالتين، لم تضع حكومة كتالونيا في حسبانها قوة الدولة الإسبانية التي يمكن أن تتجاوز النظام الديمقراطي أحيانا في سبيل الحفاظ على وحدتها الترابية، وذهبت في ذلك لآخر مدى عبر الاستفادة من الأدوات التشريعية والدستورية والقضائية المتاحة لديها، وفي كردستان تم النظر بانتهازية لضعف الدولة العراقية، وكانت الرؤية أن إعلان الاستقلال سيكون أسهل من الاستفتاء نفسه، وعلى هذا الأساس بُنيت حسابات سياسية متهورة وغير دقيقة هنا وهناك، ولذلك يعتبر هروب البرزاني من الحكم أقل عقوبة ينزلها على نفسه، بل يجب محاسبته شعبياً على هذه الورطة، وهروب بوجديمون من كتالونيا اعتراف بهزيمته سياسياً، وقد يسقط شعبياً، فضلاً عن الملاحقات القضائية التي تنتظره.

إساءة تقدير

أما عن الإخوان في مصر، وحماس في غزة، فإن الرابط بينهما وبين كردستان وكتالونيا هو إساءة تقدير دور الدولة، والمدى الذي يمكن أن تذهب إليه السلطة في استخدام أدوات القوة، ولو في ظل الديمقراطية، لإثبات وجودها والحفاظ على هيبتها.

بعد أكثر من أربع سنوات على 30 يونيو 2013، وما ترتب عليه، هل قام الإخوان بالتقييم الموضوعي المجرد لما جرى وما وصلوا إليه؟. لا أدري، لكن من وجهة نظري فإن النتائج كانت سلبية، وهنا كان واجباً عليهم التحسب لقوة أو ضعف الدولة أثناء اتخاذهم المواقف خاصة عندما لا يكون لهم وضع مميز في النظام السياسي والدستوري كالذي يتمتع به الأكراد  والكتالونيين، فالدولة العراقية حتى لو كانت قوية لم تكن تستطيع اللجوء للعنف مع الأكراد لاعتبارات عديدة إلا إذا أعلنت الحرب ودخلت في اقتتال أهلي وكلفة ذلك ستكون باهظة عليها، كما لا تستطيع إسبانيا فعل ذلك أيضاً، وأقصى ما فعلته هو مواجهة أمنية اتسمت بالشدة مع الكتالونيين خلال تفريقهم يوم الاستفتاء، أما في مصر فإن الوضع مختلف، فلا ميزة خاصة تمنع الاقتراب من الإخوان بعد إطاحتهم من الحكم عندما تعتبر السلطة الجديدة أنها مهددة، وأن الدولة التي باتت تحكمها في حالة حرجة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذا الاعتبار، كما لا يوجد نظام ديمقراطي ترسخ وقادر على كبح الرغبة في الذهاب بعيدا في العقاب الخشن، وحل الأزمات عبر الحوار السياسي، وأما التشبث بنتائج الصندوق فقد تم خلق حالة شعبية “30 يونيو” للاستفادة منها في تبرير إلغاء تلك النتائج، لا أبرر أبداً استخدام القوة في أي مكان، ومع أي كان، في غير محلها وفق صحيح دولة القانون، إنما أصف حالة فقط.

تفويت الفرصة

كانت فترة ما قبل 30 يونيو فرصة ليعمل العقل السياسي بأقصى طاقة تفكير لتفويت الفرصة على قصم الظهر، لكنها فاتت، ثم كان هناك أكثر من شهر بعد 3 يوليو لمحاولة تخفيف درجة قصم الظهر، لكن الفرصة تبددت أيضاً، بالطبع القضية شديدة التعقيد، وكل طرف – الإخوان والسلطة – له روايته التي تنسف الأخرى في هذا الصراع العدمي الذي أضر كثيرا بالطرفين، ومعهما البلد، والشعب، والخروج منه اليوم قبل الغد بداية الطريق لحل الأزمات المعقدة.

الاستهانة بالدولة قوية أو ضعيفة، وبما يمكن أن تفعله، ولو فيه تجاوز للقانون، تكون نتائجه شديدة المرارة، والغرب ليس مشغولاً بحقوق الإنسان، ولا الديمقراطية ودولة القانون خارج بلدانه، إنما تعنيه مصالحه فقط، وراجعوا تصريحات ماكرون مع السيسي قبل أيام، وسياسات ترمب، ومسارات قادة الغرب الآخرين في هذا المجال، وستجدونها سلبية نفعية، حسابات الإخوان المرتبكة بمستوى متصاعد منذ ما بعد 25 يناير 2011، وحتى اليوم تقود إلى الحالة التي يجدون أنفسهم فيها، لا أعرف هل هم راضون عن هذا المآل أم لا؟

وحماس أيضاً

حماس استهانت بسلطة الحكم الذاتي في رام الله، وهي سلطة هشة وشكلية فعلاً، لكن العالم لايعترف إلا بها، ولا يتعامل إلا معها، ولن ينشئ بديلاً لها لأنها تناسب الغرب وإسرائيل والعرب أيضاً، وبعد عشر سنوات تعود حماس من حيث بدأت، وتسلم كل شيء للسلطة، أخطأت الحركة في تقديراتها في البداية، لكنها عدلت حساباتها في اللحظة الحاسمة لثبتت أن عقلها السياسي أكثر نشاطاً وتطوراً وواقعية من عقل الجماعة الأم، وتلك نقطة ضوء وحيدة في رباعي أطراف هذا المقال.

تقديرات وحسابات الأفراد قد تفتقد للكياسة والدقة، لكن في حالة الجماعات والكيانات السياسية المنظمة يجب أن تكون التقديرات مدروسة ومحسوبة بعناية لأن الكلفة التي تترتب عليها في حالة الفشل تكون باهظة.

والدولة التي تمتلك مختلف أدوات القوة المادية والناعمة، قد تستخدمها بإفراط خصوصا إذا كانت محكومة بنظام شمولي أو مستبد، والنظم الديمقراطية على استعداد في لحظة ما أن تستفيد مما لديها من عوامل قوة أيضاً، لكن في حدود، مثل إسبانيا في مواجهاتها العنيفة للكتالونيين يوم الاستفتاء، وأمريكا في الفض بالقوة لاعتصام حركة ” احتلوا وول ستريت”، وفرنسا في التعامل بقسوة دموية مع احتجاجات الضواحي في باريس خلال رئاسة جاك شيراك، وبريطانيا في قمع أعمال شغب شهدتها لندن خلال حكومة ديفيد كاميرون.

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه