كردستان ما بعد الاستفتاء

رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني
مسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان العراق- رويترز

يبدو الراجح لدينا أن الموقف الداخلي في العراق إضافة إلى المواقف الإقليمية والدولية ستشهد تراجعات ومتغيرات قريبة تفتح الأبواب المؤصدة

استفتاء كردستان الذي منح رئيس الاقليم مسعود برزاني شرعية التفاوض مع بغداد ومع المحيط الاقليمي والدولي بشأن الانفصال عن العراق يشكل اختبارا حقيقيا للدوائر المتعلقة بهذا الاستفتاء والتحديات التي سيواجهها هذا المسعى. تتمثل في:

أولا – اختبار الموقف داخل إقليم كردستان    

لعل هذا الاختبار هو الأسهل وهو تحصيل الحاصل. وإنما جاء الاستفتاء لتقرير الحالة فقط ووضعها في إطارها الشرعي، حسب القراءة الكردية التي لا تجد غضاضة في شرعية هذا الاستفتاء وفي دستوريته، في إطار دولة سميت بالاتحادية دستوريا بعد الاحتلال الأمريكي لها عام ٢٠٠٣ حينها كانت الأحزاب الكردية عامل ترجيح قوي لإقرار دستور العراق عام ٢٠٠٥ والذي جاء لخدمة تلك الأحزاب ابتداء وانتهاء.

الاستفتاء، بعد إجرائه، أصبح الورقة الاولى في ملف الانفصال، وما سبقه لا يخرج عن دائرة تهيئة الأجواء لبدء مرحلة التنفيذ، التي تطرح سؤالا مهما يتعلق في مدى قدرة الأكراد على مواجهة الدوائر الاخرى المتعلقة بإتمام رحلة الوصول إلى الانفصال والاستقلال، وكيف ستتم مواجهة جملة التحديات ابتداء من بغداد إلى المحيط الاقليمي فالمحيط الدولي.

ثانيا – اختبار الحالة العراقية والموقف في بغداد

نعتقد أن أول استفزاز للحالة العراقية ما ورد في ورقة الاستفتاء التي تقول: يتعين على المشاركين في الاستفتاء الإجابة بـ (نعم) أو (لا)، على سؤال: “هل تريد إقليم كردستان والمناطق الكردية خارج إدارة الإقليم أن تصبح دولة مستقلة؟ ” . مع طرح سلطات الإقليم هذا السؤال بأربع لغات هي الكردية والعربية والتركمانية والسريانية.

الإشارة الأولى: المناطق المتنازع عليها

  وتقع المناطق المتنازع عليها خارج المحافظات الشمالية الثلاث التي تشكل الإقليم، وكانت محط نزاع بين بغداد وأربيل. وتضم هذه المناطق مدينة كركوك الغنية بالنفط، وأجزاء من نينوى في شمال البلاد فضلا عن أجزاء في محافظتي ديالى شرقا وصلاح الدين.

الإشكالية بدأت مع بداية وضع هذه المناطق تحت بند الخلاف، ما دفع أطراف النزاع الى الانتقال من فكرة الحل السلمي دستوريا إلى الانتقال لمنهج فرض الأمر الواقع بالقوة، الأمر الذي عرض المناطق المتنازع عليها إلى المواجهات المسلحة أو استغلال ضعف المركز وانتشار العوامل المساعدة على انتشار الارهاب والسيطرة على تلك المناطق بالقوة لمن يمتلك القدرة على ذلك. وبدا هذا الأمر واضحا من خلال سيطرة البيشمركة الكردية على محافظة كركوك وأجزاء من محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى تشاركها المليشيات المسلحة المدعومة من إيران في الأجزاء الأخرى من المحافظات نفسها. وهذه المناطق هي ما ورد ذكرها في ورقة الاستفتاء على أنها المناطق خارج حدود الإقليم والتي تضم بجانب الأكثرية من العرب السنة، عددا من الأقليات المتمثلة في الأكراد والشيعة والتركمان والمسيحيين والأيزيديين

وهذا ما يفسر طرح سلطات الإقليم سؤال الاستفتاء بأربع لغات هي الكردية والعربية والتركمانية والسريانية.

الإشارة الثانية: نفط كركوك وإشكالية السيطرة عليه

ستجد بغداد نفسها في حرج اقتصادي كبير حيث يسيطر الأكراد على مناطق النفط في كركوك، ولا نعتقد أن هناك قدرة حقيقة لاستعادة القوات الحكومية السيطرة عليه، وإن حاولت ذلك فستكون أمام حرب استنزاف باهظة التكاليف إضافة إلى جملة المشاكل التي ترهق كاهل الدولة، التي ينخرها الفساد ونتائج الحرب المكلفة التي تسمى بالحرب على الإرهاب غير واضحة المعالم والجاهزة للاشتعال في أي وقت. إضافة إلى عدم القدرة على تحييد القوة الكردية التي شكلت ذراعا أساسيا داعما للقوات العراقية بمواجهة داعش.

الإشارة الثالثة: أوراق الضغط المتاحة لدى بغداد

يعتمد هذا الأمر على القدرة التنفيذية للقرارات التي صوت عليها البرلمان العراقي وهي: إعادة نشر القوات العراقية في كافة المناطق التي سيطر عليها الإقليم بعد العام 2013. واتخاذ كافة الإجراءات القانونية بحق كل من شارك في الاستفتاء وعلى الأخص الموظفون. وتعليق عمل الشركات العاملة في المناطق المتنازع عليها خصوصاً النفطية. وإيقاف رواتب كافة موظفي الدولة الذين شاركوا في الاستفتاء. وإغلاق المنافذ الحدودية مع إقليم كردستان. وهذا كله يتطلب جهازا تنفيذيا ذا قدرة عالية وكفاءة، وهذا محط شك بحسب قراءة الحالة العراقية والخلافات القابلة للاندلاع تحت أي ظرف.

ثالثا: اختبار الموقف التركي

لقد بدا الموقف التركي تجاه استفتاء كردستان أكثر حدة وصراحة من جميع الأطراف، ذلك ما لم يتأخر الرئيس التركي أردوغان بالإشارة إليه وإعلانه معتبرا أن المنطقة يجب ألا تكون تحت تصرف مجموعة واحدة، مؤكدا حجم الخطر على دولته التي تفصلها حدود ملتهبة تقدر بـ ٣٥٠ كيلومترا مع العراق، محاذية لإقليم كردستان، معتبرا الاستفتاء غير شرعي وكأنه لم يتم أصلا. ولم يخف استعداده لخوض كل الخطوات وعلى جميع المستويات بالتعاون مع حكومة بغداد وغلق منافذ العبور والتجارة، منوها إلى أن صمام تصدير النفط إلى أوربا بيد تركيا بشكل كامل. إضافة إلى الخطوات الأمنية والعسكرية وجاهزية الطيران للتدخل والحسم.

الموقف التركي ذهب أبعد من حدوده مع العراق بالتذكير بالموقف من شمال سوريا معتبرا القضية كلها مسألة حياة أو موت، بالإشارة إلى جدلية العلاقة الحدودية الملتهبة مع سوريا أيضا على خط حدود طوله ما يقارب ٩٠٠ كيلومتر ومؤكدا أن تركيا لن تقبل بوجود أي كيان بين بلاده وكل من سوريا والعراق.

رابعا – اختبار الموقف الإيراني

نعتقد أن الموقف الإيراني من استفتاء كردستان، لا يختلف كثيرا عن مواقف الدول المجاورة من حيث التأثير والمخاوف من ان يكون النموذج الكردي الجديد جاذبا للأكراد الإيرانيين من ناحية. ومن الناحية الأخرى نعتقد أن إيران ستقف طويلا للمفاضلة حول عدة خيارات لإعاقة تحقيق الأكراد في الوصول إلى حالة الانفصال وتأسيس دولة مستقلة. خصوصا وأن خيارات الموقف الإيراني متاحة جدا من خلال التأثير على القرار العراقي وتقوية المواجهة العراقية ضد خطوات الإقليم اللاحقة من خلال الإسناد العسكري والمليشياوي الذي تمتلك إيران الكثير من أدواته داخل العراق وخصوصا في المناطق المتنازع عليها في المحافظات الأربع التي أشرنا اليها وازدياد هذا التأثير بعد أن أتاحت لها الولايات المتحدة التي تقود التحالف الدولي مساحة واسعة من التدخل في الحرب المزمعة على الإرهاب.

والأمر في ظاهره يبدو كما هو معلن، رفض الاستفتاء والوقوف إلى جانب وحدة العراق، ولكن العراق بالمنظور الإيراني الذي أرسي دعائم سيطرته على مقدراته، وبالتالي فإن أية خسارة لمساحة من مساحات العراق تعتبر، وفق واقع حال العراق اليوم، خسارة لإيران التي طالما عملت عبر تاريخها على تفتيت العراق في فترات كانت تخشى من قوة العراق المنافس الإقليمي المتفوق على القدرة الإيرانية، قبل احتلال العراق وتدمير قوته من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.

خامسا – اختبار الموقف الدولي

تتنازع الموقف الدولي تجاه استفتاء كردستان عدة قراءات واحتمالات تمر من خلال تصور لا يمكن إغفاله وهو أن تنظيم هذا الاستفتاء واختيار توقيته والإيقاع الذي مر به منذ تحديد موعده إلى حين إنجازه، لا يمكن أن يأتي من دون المباركة الدولية الضمنية باعتبار قوة الهيمنة الأمريكية والغربية والأممية على مجريات الأمور في كردستان العراق بل والعراق كله، والقدرة على تحريك الأذرع الكردية في أكثر مواقع الحسم والمواجهة بالدعم الأمريكي والروسي والغربي ضمن الغطاء الأممي.

ورقة الأكراد كانت الأكثر تأثيرا ليس في شمال العراق فقط، بل تم استخدام هذه الورقة ضمن دائرة الصراع في سوريا للضغط المزدوج في عرقلة المسار الثوري السوري، والضغط لإرباك الموقف التركي من الحالة السورية.

لذلك لا نعتقد بالمطلق صحة الموقف الأمريكي المعلن رفضه للاستفتاء، كما ينظر الكثير بعين الريبة من موقف الأمم المتحدة الرافض لاستفتاء كردستان، خصوصا وأن التجارب السابقة في تراجعات الموقف الأممي من القضايا المصيرية في الشرق الأوسط والعالم العربي تكررت كثيرا، مع حقيقة أن موقف الامم المتحدة مازال مرتهنا للإرادة الامريكية والغربية.

وعموما يبدو الراجح لدينا أن الموقف الداخلي في العراق، إضافة إلى المواقف الاقليمية والدولية، سيشهد تراجعات ومتغيرات قريبة تفتح الأبواب المؤصدة الآن ضد إقليم كردستان، من خلال النظر إلى المصالح وتقدير طاقة وحجم تحمل كل دولة تجاه أدوات الضغط التي ستفرضها حالة الصراع والاستنزاف على أرض ملتهبة لا ترحم الضعفاء. أما كردستان فستبقي ما بين قولنا (شمالي) محتفظ بياء النسبة إلى العراق، وطموح بأن تصبح دولة تقع (شمال العراق) ولكن بعد أن تتمكن الدول العظمى، لا سمح الله، من ترتيب المئوية المقبلة وإبقاء المناطق المتنازع عليها خارج حدود إقليم كردستان اليوم. هي نفسها المناطق المتنازع عليها مستقبلا، ولكن بين دولة كردستان ودولة العراق.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه