كارثةُ الجهلِ بالفروقِ في زمنِ الأزمات

لا يمكن للنّاظر في أحوال الفلسطينيين أن يعطي حكمًا واحدًا للعمل المقاوم بين الأراضي المحتلّة عام 1948م والضّفة وغزّة.

•    ما هو علم الفروق؛ وما أهميّته؟

من أكثرِ الفنونِ التي يحتاجُهَا الباحثُ في الأحكام الشرعيّة والنّاظر في المسائلِ ـ لا سيما المستجدة منها في زمن الأزمات ـ هو فنّ الفروقِ الفقهيّة الذي أوصلَه بعضهم إلى مرتبة العلم المستقلّ بذاتِه.
والمقصودُ بعلم الفروقِ الفقهيّة هو: قدرةُ الفقيهِ أو الباحثِ على التَّفريق بينَ المسائلِ المتشابهةِ في ظاهرِهَا المختلفةِ في حكمهَا، والجمعُ بينَ المسائلِ المختلفةِ في ظاهرِهَا المتّحدةِ في حكمهَا.
 وقد وصلَ البعضُ بهذا المعنى لمَا له من خطورةِ بالغةٍ إلى تعريف الفقهِ كلّه به، كما بيّنَ الزرّكشي ذلك في كتابه “المنثور” وهو يبيّنُ المجال الثاني من مجالاتِ الفقه: “معرفةُ الجمعِ والفَرقِ؛ وعليهِ جُلُّ مناظراتِ السَّلفِ حتَّى قالَ بعضهم؛ الفقهُ فرقٌ وجمعٌ”
ولا يكونُ الباحثُ قادرًا على القولِ في أيّةِ مسألةٍ من المسائلِ حتى يحيطَ بهذا الفنّ ويتقنَه ويتبحّرَ فيه ويمتلكَ أدواتِه؛ ممّا يجعله قادرًا على التَّنزيلِ الصّائب للنّصوصِ على الوقائعِ التي تشابَهَت صورتُها، واحتاجت نظرةً فاحصةً للتفريقِ بينَها من حيثُ الزّمانُ والمكانُ والظروفُ المحيطةُ بكلٍّ منها.
وقد أبدَع السّيوطي في تحريرِ معنى هذا الفنّ في كتابه “الأشباه والنّظائر” إذ قال: “هو الفنُّ الذي يذكرُ الفرقَ بينَ النّظائرِ المتَّحدة تصويرًا ومعنىً؛ المختلفةِ حكمًا وعلّة”..
وقد بيّن الجويني مثل ذلك أيضًا فقال: “فإنّ مسائلَ الشّرع ربما تتشابَه صورها، وتختلف أحكامُها لعللٍ أوجبَت اختلاف الأحكام، ولا يستغني أهلُ التّحقيق عن الاطّلاع على تلك العلل التي أوجبت افتراق ما افترق منها، واجتماع ما اجتمع منها”.

•    الحاجة إلى علم الفروق في الأزمات

وفي زمنِ الأزماتِ تتشابكُ الوقائعُ وتتشابهُ في مظهرِهَا العامّ بينَ الماضي والحاضرِ وبينَ البيئاتِ والأقاليمِ المتباعدةِ في الجغرافيا لكنّها تتَّحدُ في الخضوع لأزماتٍ متشابهةٍ؛ ممَّا يدفعُ كثيرًا من العلماءِ والباحثينَ إلى إطلاقِ الأحكام نفسِهَا على وقائعَ كثيرةٍ بحكمِ تشابُهِهَا في الظّاهرِ والصُّورةِ.
وقد تتّحد المصطلحات في الزّمن الواحد أو الأزمنة المختلفة، لكنّ مدلولاتها تختلف من مكانٍ إلى آخر أو من زمانٍ إلى سواه؛ فيتمّ تعميمُ الرّؤى والأحكام والتقييمات عليها جميعًا دون تبيُّنٍ أو إدراكٍ لكنهها وحقائقها. 
وإنَّ معرفةَ تفاصيلِ الوقائع وحقائقها، لا مجرّد صورِها ومظاهرِها هو الذي يتيح ‏للنّاظر فيها إلحاق بعضها ببعض، والإفادة من وقائع سابقة في فهم وقائع حاليّة ‏والتّعامل معها، والحكم عليها والإفادة منها.
ولئن كان العلم بالفروق ضروريًّا للحكم في مستجدّات الفقه ومسائله الاعتياديّة؛ فإنّه يكون أشدّ ضرورةً وأعظم خطرًا في تعرُّف مستجدات الوقائع السياسيّة والنّوازل التي تداهم النّاس في هذا العالم المتغيّر الذي تتشابك مسائله وتتداخل الصّورة فيه ممّا يجعل الكثيرين يعمّمون الأحكام دون درايةٍ أو تمحيص. 
إنَّ التّدقيق فيما وراءَ الصّورة سيجعلُنا نرى الاختلافَ في حقيقةِ كلّ واقعَةٍ عن الأخرى، واختلافَ ظروفِهَا المحيطةِ بها على الرّغم من كونها وقائع في بيئةٍ جغرافيةٍ متّحدةٍ، كما سيدفعُ البحثُ فيما وراءَ المظهرِ الخارجيّ للوقائعِ إلى جمع كثيرٍ مما اختلفَ منها ظاهريًا في حكمٍ واحدٍ بناءً على اتحادها في الحقائقِ والعلل وإن باعَدَت بينَ أماكنِها البيئات الجغرافيّة.

•    تطبيقات على واقع الأزمات

فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ لا يمكن للنّاظر في أحوال الفلسطينيين أن يعطي حكمًا واحدًا للعمل المقاوم بين الأراضي المحتلّة عام 1948م والضّفة وغزّة؛ فهذه المناطق الثّلاث رغم اجتماعها في بقعة جغرافيّة واحدةٍ صغيرةٍ متّصلة، واتّحاد المحتلّ الصّهيوني، والمظلوم الفلسطيني؛ إلّا أنَّ هناكَ فروقًا حقيقيّة متعلّقةً بطبيعة الصّراع، وتوصيف الحالة، ممّا ينعكس على التكييف السياسي والحكم الشّرعي للعمل المقاوم في كلٍّ منها.
فإذا كانت هذه الحالة التي يتّحد فيها الزّمان والمكان تفرضُ علينا التّفكّر في الفروق الدقيقة بين الوقائع حتّى لا نعمّم الأحكام السّياسيّة أو الشرعيّة؛ فهذا يفرضُ علينا أن نتريّث أكثر عند اختلاف الزّمان أو المكان.
 فلا ينبغي إسقاط وتنزيل حادثةٍ تاريخيّة على حادثةٍ معاصرةٍ بالكليّة دون النّظر الدّقيق في تفاصيل الحادثتين وظروفهما المحيطة وسياقاتهما السياسيّة والاجتماعيّة.
وكذلك لا ينبغي أن يتمّ تقييم تجربةٍ ثوريّةٍ أو شعبيّةٍ لشعبٍ ما في ضوء تجربةٍ ثوريّة لشعب آخر دون إدراك الفروق الجوهريّة بين التجربتين في الحقائق والمضامين والظّروف المحيطة.
إنَّ تفكيكَ الوقائع وفهم الفروق فيما بينها يتيح للباحثِ فيها نظرةً موضوعيّة قبلَ إطلاق الأحكام أو تعميم التّجارب.
وإنَّ كثيرًا من المشكلاتِ التي يقعُ فيها الباحثونَ اليوم؛ سببه الجهلُ بهذا الفنّ وأدواته في التَّعامل مع وقائعِ الأزمات؛ ممّا تسبَّب في دخولِ النَّاس في متاهاتٍ، كانَ ثمنُها يصلُ إلى دماءٍ تراقُ ونفوسٍ تزهقُ وحرماتٌ تنتهكَ وحريَّاتٌ تستباحُ؛ فهلَّا من صحوةٍ تعيدُ لكثيرٍ من المُتصَدِّينَ لِوقائعِ الأزماتِ رشدَهم بعدَ كلّ هذا التّيهِ البحثيّ المُمَنهج؟!
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه