“قحطان الشعبي” الزعيم اليمني الذي ضيعه المصريون وضيعوا اليمن معه

 

قحطان الشعبي (1923 ـ 1981) زعيم عربي حقيقي استطاع أن يُنجز ما عجز عنه مُعظم القادة العسكريون العرب  في القرن العشرين، وهو ببساطة شديدة الذي جمع اليمن الجنوبي (أو ما يُعرف الجنوب العربي) كله في دولة مدنية واحدة  بقوة المنطق السليم والعمل السياسي المُخلص بعيدا عن المؤامرات التي يُؤمر العسكريون المحليون بصُنعها فيصنعونها ويوجدون بها حالة من حالات التوتر الدائم تحت شعار كاذب هو شعار الاستقرار، أما قحطان الشعبي فبقوة الإيمان وحده استطاع أن يصل إلى كيان عظيم وإلى مُجتمع عظيم وأن يستمر في قيادته عامين متواصلين قبل أن يُحقق بعض المراهقين من العسكريين واليساريين لأعداء العروبة ما حققوه من إدخال الدولة الوليدة في دوامات الصراع الدولي في المنطقة.

النشأة والتكوين

عاش قحطان الشعبي حياة طبيعية حتى مع قسوتها ونشأ نشأة سوية حتى مع صعوبة اليُتم والبُعد عن الحياة الحاضرة لكنه بذكاء البدوي الفطري وباجتهاد الإنسان الطموح وبتربية عربية أصيلة استطاع أن يرتقى في مدارج الوعي والسياسة حتى استطاع أن يبني أساسا متميزا لدولة جديدة في 1967 ولولا أن هذه الدولة تمتعت بما حباها الله به من موقع فريد وخصائص بشرية وجغرافية متميزة ما وقعت أسيرة لما وقعت فيه من مطامع الماركسيين والغربيين على حد سواء فضلا عن تآمر العرب المُحيطين بها والبعيدين عنها كذلك ورغباتهم المتكررة والمتجددة في السيطرة دون قدرة، والانتفاع دون حق ، والإفساد دون مبرر.
وإذا جاز القول بأن هزيمة 1967 كانت لها بعض الآثار (غير المقصودة لا من الحرب ولا من الهزيمة)  المقللة من آثار النزق فإن أول هذه الآثار كان أن حرص الرئيس عبد الناصر على أن يعتذر لقحطان الشعبي عن سياسات الإفساد والانحراف التي مارستها الأجهزة السيادية المصرية مع مجتمع الجنوب العربي، وهي سياسات مراهقة وخرقاء لكنها كانت في نظر القائمين عليها ضرورة لا بد منها لإضفاء روح الأهمية على النظام الناصري وللمباهاة بقُدرتهم على السيطرة على تنظيمات عربية يصنعونها بأنفسهم وعلى أعينهم ظنا منهم أنهم بصُنع هذه التنظيمات وتمويلها يضمنون ولاء المنتسبين إليها ويضمنون أن يكونوا بُدلاء أسهل منالا من زعيم شعبي حقيقي مثل قحطان الشعبي.

قحطان الشعبي وعبد الناصر

 وقد وصل تعسف المصريين مع قحطان الشعبي وأمثاله من زعماء الجنوب أن قيدوا حريتهم في القاهرة وفي غير القاهرة وهددوا حياتهم في بلادهم وخارج بلادهم ليُعطوا الفرصة للأنظمة (أو التنظيمات) التي كانوا يعتقدون أنها ستظل موالية لهم من قبيل ما يوصف في علم السياسة بالعمالة.. وقد مضت مصر في هذا الخط باستعلاء وتصميم حتى وقعت هزيمة 1967 وأدركت مصر مدى العبث الذي سيُكلفها الكثير لو ظلت مستمرة فيه، وهكذا استقبل عبد الناصر هذا الزعيم الحقيقي قحطان الشعبي واعتذر له أو طيب خاطره مُعتذرا عما أصابته به مصر من المضايقات، ومُحررا له من سيطرة وتهديد المخابرات المصرية وناسبا الخطأ في كل ما جرى إلى قيادات المخابرات العامة التي كان عبد الناصر يُبعدها في ذات الوقت من مناصبها إلى السجن. 
وهكذا تمكن قحطان الشعبي أن يستعيد زمام الأمور في وطنه بعد أن رفعت مصر يدها المناوئة للزعامة الشعبية (التي تحمل اسم الجبهة الشعبية) مستعينة بزعامة مصنوعة سُميت بالجبهة القومية.
 واستطاع قحطان الشعبي الذي كان هو نفسه رجلا من كبار رجال الجهاز التنفيذي العامل في الجنوب العربي من خلال مناصب متقدمة لا تقل في نفوذها الحقيقي عن مناصب الوزراء أن يقود خطوات بلاده نحو إعلان الاستقلال وإعلان الدولة الجديدة التي حرصت على أن يتضمن اسمها أنها عربية، وأنها تضم الجنوب العربي كله وليس عدن كما كان الفرقاء الآخرون يريدون متوافقين مع ما عُرف بعد هذا من الاتجاه السوفييتي إلى السيطرة على هذا المدخل المهم في الاستراتيجية الدولية.

أصعب مصير

تُوجت قصة كفاح قحطان الشعبي بالنجاح التام حين أعلن استقلال وبزوغ الدولة التي أصبح هو نفسه رئيسها، وحين بدأت هذه الدولة ممارسة سيادتها بسهولة وسلاسة ووطنية كان من الممكن أن تستمر حتى الآن لكن المراهقة الماركسية والمطامع الخارجية (العربية قبل العالمية) كانت لهذا الكيان العظيم بالمرصاد، فاستطاعت أن تُنهي هذه التجربة الرائعة في حكم الجنوب العربي وأن تبدأ سلسلة متجددة من القلاقل التقليدية التي لم تنته حتى يومنا هذا.
أما قحطان الشعبي الزعيم الحر الأبي فقد كان مصيره أصعب مصير واجه رئيسا عربيا حتى ذلك الوقت فلم يكتف الماركسيون بالانقلاب عليه وإبعاده عن الحياة العامة بل إنهم اعتقلوه وجعلوا اعتقاله في زنزانة فردية ساموه فيها العذاب لا لشيء إلا لأنه زعيم ولأنه وطني ولأنه نزيه وأمين وغير عميل.
وربما أن الجماهير لم تعرف هذه الحقائق إلا في العامين الأخيرين حيث كان نصف قرن قد مر على مجد قحطان الشعبي وإنجازه العظيم الذي بدده العرب والمراهقون والمُفتقدون للتجربة السياسية على وجه العموم.
ولد قحطان الشعبي محمد الشعبي عام 1923 في لحج في وادي شعب وهو أحد أودية مدينة طور الباحة التي هي عاصمة إقليم الصبيحة، وقد توفي والده قبل ولادته بثلاثة أشهر، وقد كفله شيخ وادي شعب وهو الشيخ عبد اللطيف عبد القوي، وعاش قحطان الشعبي حياة بدوية كاملة بدأت برعي الأغنام ثم انتقل إلى عدن للدراسة في مدرسة “جبل حديد” وهي مدرسة معروفة بل إنها أشهر المدارس في تاريخ عدن الحديثة وفيها درس أبناء السلاطين والشيوخ ثم نال قحطان الشعبي بعثة دراسية إلى السودان فكان أول زعيم عربي يتلقى تعليمه في السودان (وليس في مصر أو بيروت أو العراق)
وفي السودان أتم قحطان الشعبي دراسته الجامعية وحصل على بكالوريوس في الزراعة من جامعة جوردون من الخرطوم، لكن الأهم من التعليم الجامعي كان هو وعيه السياسي الذي تفتح في بلد يُمارس السياسة ويُعاني مثل وطنه من الاحتلال البريطاني، وقد ثبت أن قحطان الشعبي اشترك مع السودانيين في المظاهرات السياسية السودانية ووزع المنشورات المعادية للبريطانيين، وتعرض للاعتقال والإيذاء البدني.
بعد عودته إلى بلاده أصبح بمثابة وزير (مدير) الزراعة في أبين ثم في حضرموت التي كانت تضم سلطنتين ثم عاد إلى سلطنة لحج وفيها أصبح أيضا بمثابة وزير(ناظر) الزراعة.
وصل قحطان الشعبي بكفاءته الوظيفية إلى أرفع درجة من درجات الوظائف الوطنية في ظل هذا الاستعمار البريطاني وأصبح بكفاءته وتفانيه من أكبر ثلاثة موظفين عرب في ظل الاستعمار، وكان هو أصغرهم.
اشترك قحطان الشعبي في تأسيس “رابطة أبناء الجنوب” في مطلع الخمسينيات وعلى حين كانت هذه الرابطة تدعو لوحدة الجنوب العربي كله فإن الزعيم اليمني المعروف محمد علي لقمان كان يتزعم الدعوة الأقل طموحا إلى قيام دولة صغيرة في عدن وهو ما عبر عنه بكتابه “عدن تطلب الحكم الذاتي” وهو ما وُصف بأنه القومية العدنية.
بدأ قحطان الشعبي يواجه متاعب السياسة والثورة والوطنية، فقد قررت السلطات البريطانية اعتقاله في 1958 لكنه تمكن من الهرب عبر تعز في اليمن ومنها إلى القاهرة. 
في 1956، أسس البطل العظيم فيصل عبد اللطيف الشعبي 1935- 1970 فرع حركة القوميين العرب وأصبح قحطان الشعبي عضوا سريا بحكم مناصبه. 

اتحاد الإمارات المزيف

في   1959وضع قحطان الشعبي مع زميل كفاحه فيصل عبد اللطيف الشعبي كتابا بعنوان ” اتحاد الإمارات المزيف مؤامرة على الوحدة العربية” وكان هذا الكتاب دعوة صريحة إلى الكفاح المُسلح.
وفي 1960 استقال قحطان الشعبي وزملاؤه من فرع حركة القوميين العرب حين وجد هذه الحركة غير قادرة على حمل المسؤولية وبدأوا يستعدون على مهل لإنشاء كيان جديد وهو الجبهة القومية التي تحقق استقلال اليمن الجنوبي على يديها.
في مايو 1962 قحطان الشعبي كتابه الأشهر” الاستعمار البريطاني ومعركته العربية في جنوب اليمن” أي قبل ثورة السلال بأربعة أشهر، وفيه دعوة صريحة إلى أن يتحول اليمن إلى جمهورية تتولى تحرير الجنوب، وهكذا فإن قيام ثورة السلال كان مدعاة لأن ينتقل قحطان الشعبي مباشرة من القاهرة إلى صنعاء وأن يعين بناء على إلحاح أبناء الجنوب مستشارا للرئيس السلال لشئون الجنوب المحتل ثم رئيسا لما عُرف باسم مكتب الجنوب في صنعاء (مصلحة الجنوب) ومن خلال هذا الموقع مارس كثيرا من السلطات التنفيذية التي خدمت أبناء الجنوب.
كان قحطان الشعبي مُتمرٌسا بالعمل السياسي والتنفيذي معا وهكذا رأى ضرورة إعلان قيام جبهة لتستهدف تحرير جنوب اليمن في فبراير 1963، سُميت بالجبهة القومية وأصبح هو أمينها العام وعلى يديها تحقق استقلال جنوب اليمن بالفعل في 30 نوفمبر 1967 وظل مُحتفظا بهذا المنصب حتى وهو رئيس للدولة الجديدة، ومن خلال منصبه كأمين عام لهذه الجبهة مثل جنوب اليمن في المحيط الدولي المتاح لمثل حركته.
بيد أن هذه الجبهة التي تأسست في فبراير 1963 لقيت كثيرا من المصاعب على يد المصريين (سواء من كانوا في القيادة المصرية في اليمن أو من كانوا في القاهرة) وبدأت هذه المصاعب عند محاولة الشعبي إعلان ثورة تحرير الجنوب في 14 أكتوبر 1963 فإن مصر لم تُذع البيان، وأعربت عن انزعاجها من تحديد موعد للثورة بينما كانت تسعى إلى التوافق مع البريطانيين، وبعد مناقشات أذاعت مصر البيان في 26 أكتوبر 1963 لكن مرحلة طويلة من سوء الظن والتربص كانت قد تكرست، وبدأت العلاقة تسوء بين ثوار الجنوب وبين القاهرة. لكن هذا لم يمنع قحطان الشعبي من قيادة كفاح مسلح استطاع توفير الذخيرة له، كما شن عددا من المعارك الناجحة التي سرٌعت من اقتناع البريطانيين بالخروج من اليمن.
كانت المتاعب التي خلقها المصريون لقحطان الشعبي و زملائه قد وصلت إلى ذروتها في يناير 1963 عندما أعلنت مصر عن قيام تنظيم جديد باسم “جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل” وكعادة البيروقراطية المصرية فقد حرصت على أن تضم هذه الجبهة بعض السلاطين والأمراء والمعارضين للكفاح المسلح، كما أعلنت القاهرة أن الجبهة القومية التي يقودها قحطان الشعبي قد انضمت إلى جبهة تحرير الجنوب، لكن قحطان الشعبي نفسه أعلن من القاهرة نفسها عدم شرعية ضم جبهته إلى جبهة التحرير، واعتبر الأمر مؤامرة للقضاء على الجبهة القومية بعد أن مضت الثورة المسلحة إلى المزيد من الانتصارات.
كان الرد المصري مُتوقعا وإن لم يكن مشرفا.. ذلك أن السلطات المصرية التي كانت تعتبر نفسها وصية على حركات التحرير احتجزت قحطان الشعبي ومعه رفيق كفاحه فيصل عبد اللطيف في القاهرة، لكن هذا البدوي الذكي (فيصل عبد اللطيف) استطاع تضليل الأجهزة المصرية وفرٌ من مصر إلى بيروت ثم إلى الجنوب، وعقد مؤتمره الشهير في نوفمبر 1966 بينما ظل قحطان الشعبي مُحتجزا في القاهرة حتى وقعت هزيمة 1967 وأعادت مصر ترتيب تحالفاتها العربية، وهكذا استقبل الرئيس عبد الناصر بنفسه قحطان الشعبي واعتذر له وسمح له بمغادرة مصر في أغسطس 1967.
كانت هزيمة 1967 من جهة أخرى إيذانا بتضاؤل دور جبهة التحرير الموالية لمصر وبصمود الجبهة القومية وسيطرتها على كل المواقع في الجنوب العربي ووصل الأمر في النهاية وفي غياب وسيط شريف إلى الاقتتال فانتصرت الجبهة القومية (بقيادة قحطان) ولقيت الجبهة الموالية لمصر هزيمة نهائية، وسيطر قحطان الشعبي على الوضع تماما في نوفمبر 1967 واضطرت بريطانيا إلى الاعتراف بأن الجبهة القومية التي يقودها قحطان الشعبي هي الحكومة الفعلية القائمة في الجنوب ، وترأس قحطان الشعبي الوفد اليمني الجنوبي إلى مباحثات الاستقلال مع البريطانيين في جنيف فيما بين 21 و28 نوفمبر .

استقلال الجنوب

وفي 29 نوفمبر 1967 وقع قحطان الشعبي اتفاقية استقلال جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني الذي استمر قرابة 130 عاما.
وفي اليوم التالي 30 نوفمبر 1967 والذي اعتبر يوم الاستقلال احتشدت الجماهير لاستقبال بطلها الشعبي العظيم قحطان الشعبي واستمرت الاحتفالات على المستوى الوجداني اللائق بقيام الدولة العظيمة
ظل قحطان الشعبي يُمارس حكم اليمن الجنوبي بإخلاص وهمة واقتدار إلى أن قام الانقلاب الماركسي في أواخر مارس 1970و اغتيل نائبه وشريكه في الكفاح المناضل العظيم فيصل عبد اللطيف رئيس الوزراء في أبريل 1970 في زنزانته بينما بقي قحطان الشعبي في الاعتقال الانفرادي حتى وفاته في 7 يوليو 1981 في أواخر عهد الرئيس السادات.
 توفي قحطان الشعبي في معتقله بعد 11عاما من السجن والتعذيب لكن جماهير شعبه كلها خرجت لتُشيعه إلى مثواه الأخير ولتشيع معه آمالها في الحرية المبتغاة والشخصية المنيعة والمستقبل الزاهر فقد كانت وطأة الماركسية ثقيلة، وكانت وطأة العسكر أثقل من وطأة الماركسية، وكانت تربصات العرب المحيطين باليمن الجنوبي أشد وطأة من وطأتي الماركسية والعسكر على حد سواء.
لقي قحطان الشعبي وجه ربه بعد أن رفض ممارسة أي نوع من القتل للخصوم أو الموافقة على قرارات الإعدام للساسة السابقين. وفي أثناء اعتقاله تزوج ابنه الوحيد في 1976. أما زوجته التي تجمع بين المجد من طرفيه (باعتبارها شقيقة البطل فيصل عبد اللطيف وزوجة قحطان) فقد عاشت بعده طويلا حتى توفيت في 1998.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه