قبرص التركية بين الفيدرالية والكونفدرالية

إلا أنه في أعقاب اكتشاف النفط والغاز شرقي المتوسط، عادت المشكلة القبرصية مرة أخرى لتتصدر أولويات السياسة الخارجية لكل من الاتحاد الاوربي وتركيا

 

 

تزامنا مع احتفالات الذكرى الخامسة والاربعين لتأسيسها، عادت جمهورية شمال قبرص التركية – غير المعترف بها دوليا سوى من تركيا – لتتصدر اهتمامات السياسة الخارجية لكل من بروكسل وأنقرة، وسط حالة من التوتر والتصعيد المغلف بالتهديد العسكري وتبادل الاتهامات بين الجانبين على خلفية الصراع القائم حاليا حول عمليات التنقيب عن البترول والغاز التي تقوم بها اليونان والشطر الجنوبي من الجزيرة الذى يسيطر عليه القبارصة اليونانيين، بالتعاون مع شركات أوربية، في تجاهل تام لمصالح القبارصة الأتراك وحقهم المشروع في ثروات الجزيرة.

وهو الأمر الذي ردت عليه تركيا بإرسال سفينتين محليتين إلى شرق المتوسط للتنقيب عن الغاز والبترول قبالة السواحل المشتركة بينها وبين الشطر الشمالي لجزيرة قبرص، الذي يسيطر عليه القبارصة الأتراك تحت حماية القوات المسلحة التركية منذ العام 1974.

جمهورية شمال قبرص التركية

وقبرص التركية لمن لا يعرف، هي جمهورية صغيرة تقع في الشطر الشمالي من جزيرة قبرص ذات الموقع الاستراتيجي المهم في البحر المتوسط، وتقطنها غالبية مسلمة تركية. جاء تشكيلها نتيجة عمليات قمع وعنف مستمرة، ومحاولات دؤوبة من جانب القبارصة اليونانيين للاستحواذ الكامل على الجزيرة وضمها إلى جمهورية اليونان، والتعامل مع القبارصة الأتراك في الجزيرة على أنهم أقلية، رغم أنهم يمثلون 30% من مجموع سكانها.

ومع تزايد عمليات العنف وتحولها إلى ما يشبه الابادة الجماعية قام الجيش التركي في 20 من يوليو/ تموز من عام 1974 بعملية عسكرية في الجزيرة تحت اسم “عملية السلام ” لحماية القبارصة الأتراك من هجمات القوميين القبارصة، الذين سعوا لضم الجزيرة إلى الدولة اليونانية، والتخلص من سكانها الأتراك المسلمين. 

 الأمر الذي دعا الجيش التركي لتوسيع نطاق عمليته العسكرية في منتصف شهر آب / أغسطس، حيث نجح في وقف عمليات الإبادة التي حصدت أرواح ألاف الأتراك من سكان الجزيرة، وتم الفصل بين الجانبين والتوقيع على اتفاقية لتبادل الآسرى بينهما في شهر سبتمبر /أيلول 1974.

وفي 13 من فبراير/ شباط 1975، أعلن عن تأسيس دولة منفصلة للقبارصة الأتراك برعاية تركيا في الشطر الشمالي من الجزيرة، بحماية القوات المسلحة التركية، وتم انتخاب رؤوف دنكطاش أول رئيس للجمهورية التي باتت تعرف منذ 15 من نوفمبر / تشرين الثاني 1983 باسم “جمهورية شمال قبرص التركية”.

نقاط خلافية ومفاوضات شاقة دون جدوى

ومنذ ذلك التاريخ والمشكلة القبرصية تراوح مكانها، إذ بُذلت جهودا أممية، ونُظمت الكثير من جولات المفاوضات الشاقة سعيا وراء التوصل لحل لتلك المشكلة وإعادة توحيد شطري الجزيرة مرة أخرى، كان أبرزها الخطة التي قدمتها الامم المتحدة عام 2004 لتحقيق ذلك الهدف، إلا أن جميع تلك الجهود باءت بالفشل الذريع، نتيجة تعنت القبارصة اليونانيين ورفضهم الاعتراف بشراكة القبارصة الأتراك لهم في الجزيرة، وإصرارهم على التعامل معهم باعتبارهم أقلية لا يحق لها المطالبة بالمشاركة في الحكم واقتسام السلطة.

وفي ظل هذا المفهوم من جانب القبارصة اليونانيين تم رفض مقترح الفيدرالية كحل لإنهاء المشكلة القبرصية، وهو الحل الذي دعمه بشدة القبارصة الاتراك حيث تقاسم السلطة بين شطري الجزيرة، مع الاتفاق على شكل الحكومة المركزية التي تشرف على عموم الدولة، ولها الحق في السيادة على مسائل الدفاع، والسياسات الخارجية بشكل كامل، مع احتفاظ كل جانب بحقه في التحرك دوليا وفق مفهومه الخاص وبما يحقق مصالحه، ومشاركته الفعلية وليس الإسمية في اتّخاذ القرارات مع الجانب الأخر على مستوى الدولة.

وتنحصر نقاط الخلاف بين القبارصة الأتراك واليونانيين في عدة محاور رئيسية هي: الاقتصاد، والعلاقات مع الاتحاد الأوربي، والملكيات الخاصة التي خسرها الأفراد نتيجة التقسيم، وتقاسم السلطة والأراضي، وضمانات الأمن.

غاز المتوسط وعودة الاهتمام بقبرص

لتخبو المشكلة القبرصية تحت ركام عشرات المشاكل الأخرى التي اندلعت هنا وهناك، إلا أنه في أعقاب اكتشاف النفط والغاز شرقي المتوسط، عادت المشكلة القبرصية مرة اخرى لتتصدر أولويات السياسة الخارجية لكل من الاتحاد الأوربي وتركيا، بعد قيام كل من الجانب القبرصي اليوناني والحكومة اليونانية بإبرام عدد من الاتفاقيات مع شركات دولية ودول إقليمية للتنقيب عن مصادر الطاقة الهيدروكربونية في المنطقة، وتجاهل حق القبارصة الأتراك في ثروات المنطقة، الأمر الذى يراه القبارصة الأتراك استمرارا لنهج نظرائهم اليونانيين بتجاهلهم والاستحواذ على ثروات الجزيرة وحرمانهم منها، ما يعيق محاولات التوصل إلى حل سياسي للمشكلة ويقف حجر عثرة في طريق توحيد شطري الجزيرة مرة اخرى، وهو ما تساندهم فيه أنقرة التي ترى أنه لا يحق لقبرص اليونانية المضي قدما في استغلال ثروات الجزيرة مادامت مقسمة، لأنها بذلك تحرم نظراءهم الأتراك من ثروات بلادهم.

توظيف مشكلة قبرص للنيل من تركيا

استغلال المشكلة القبرصية للنيل من تركيا، بدا واضحا في مسألتي ترسيم الحدود بين قبرص وبعض الدول المجاورة لها من دون سند قانوني، وفي دعم الاتحاد الأوربي للخطوات اليونانية الخاصة بالتنقيب عن الغاز والبترول وتهديده لتركيا بفرض عقوبات عليها حال استمرت في التصدي للتصرفات اليونانية، مما أدى إلى تصاعد حدة الخلاف بين أطراف المشكلة القبرصية التي بدت عصية على الحل في ظل استمرار فقدان الثقة بين طرفيها، وعدم قدرتهما على إيجاد نقطة التقاء تنهي محاور الخلاف الاساسية التي تعرقل التوصل إلى حل. إلى جانب استغلال ذلك النزاع في تأجيج الصراع التاريخي بين تركيا واليونان لخدمة أهداف ومصالح سياسية لدول إقليمية.

الكونفدرالية الحل الامثل لنزع فتيل التوتر

وفي خطوة مضادة للتحركات اليونانية، أعلنت أنقرة عدم اعترافها باتفاقيات ترسيم الحدود التي وقعت بين قبرص والدول المطلة على البحر المتوسط، كما قامت بتوقيع اتفاقية مع السلطات القبرصية التركية للتنقيب عن النفط في السواحل الشمالية، التي تعد داخل إطار الجرف القاري لحدودها البحرية.

وفى تحرك جديد، أعلنت الأمم المتحدة أنها تتجه لعقد مؤتمر دولي حول قبرص، بهدف استكشاف فرص جديدة لحل الأزمة القبرصية، التي بات استمرارها يهدد الأمن الإقليمي في عموم شرق المتوسط. بل وينذر باندلاع نزاع عسكري في المنطقة لا يعمل مداه إلا الله.

ليبدو الطرح الخاص بالكونفدرالية الذي يسوق له القبارصة الأتراك هو الحل الأمثل في الوقت الراهن، لنزع فتيل التوتر، وإنهاء ذلك النزاع الذي طال أمده، دون مكاسب تذكر لأي من اطرافه. حيث يؤمن هذا النظام الخصوصية المطلوبة لكل طرف من أطراف المشكلة القبرصية، واحترام السيادة الدولية التي فرضتها سنوات التقسيم، حتى تهدأ الاوضاع ويتم إعادة بناء الثقة بينهما بما يمكن أن يؤهلهما إلى إعادة التفكير في توحيد شطري الجزيرة وفق النظام الفدرالي الذي يؤمن لكل منهما خصوصيته التاريخية والثقافية.

المستجدات التي ظهرت مؤخرا، والمرتبطة باكتشافات البترول والغاز، ورغبة دول المتوسط في الاستفادة منها لتحسين أوضاعها الاقتصادية، وزيادة حجم قوتها الاقليمية، ستجبر جميع الأطراف في نهاية المطاف على قبول التفاوض والعمل سويا من أجل تحقيق مصالحهم الاقتصادية، ودرء خطر اندلاع حرب جديدة المنطقة في غنى عنها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه