في غياب النديم وحداد من يحيي صوت الثورة؟

إن فؤاد حداد يشير لنا إلى مناطق النور التي لابد أن نتدارسها ونتأملها حتى نضع أنفسنا على طريق النصر وإعادة بناء الدولة واستعادة ثورتنا فمن يا ترى يصبح صوتا معاصرا لثورتنا المهدورة؟!

 

“جلادك محامي.. وحاميكي حرامي .. وإيه ينفع كلامي .. يا ساكنه الخرس”

هذا المقطع الذي كتبه شاعر العامية المصرية الكبير عبدالرحمن الابنودي تعبيرا عن حال صوت الثورة العرابي، ومؤذنها المبدع  عبدالله النديم أراه تعبيرا جيدا عن حال كل المهمومين بحال مصر الآن من مبدعيها.
فخلال ست سنوات من عمر نظام السيسي لم نعد نملك سوى الكلام  عبر بعض وسائل الإعلام القليلة المتاحة ومواقع التواصل الاجتماعي؛ لكن ماذا يُجدي الكلام حال أصبح المحامي عن الشعب  جلاده، وأصبح من تكون مهمته حمايتنا سارقاً لنا وبائعاً لأرضه، وجابيا لضرائب وصلت إلى حد فرضها على الشواطئ، وخدمات إسعاف المواطنين، وفي نفس الوقت يغرق الوطن في ديون لا قبل للأجيال القادمة بها، فها هو الدين الخارجي قد وصل إلى الرقم ١٠٦ مليارات دولار في مارس الماضي، بخلاف الدين الداخلي الذي وصل قرابة خمسة تريليونات  جنيه مصري.
إزاء هذا الهم فحتى الكلام الذي لا نملك غيره أصبح معاقبا عليه في مصر، فغاب صوت الثورة المصرية، والآن لا نملك إلا أن نبحث جميعا عن أصوات تعيد الثورة المصرية إلى الميادين، وتعيد الثقة لهذا الشعب في ذاته وقواه الحية وقدرته على تخطي هذا المرحلة التي صارت الأشد ظلمة في تاريخنا الحديث، فلعلنا نظفر بمبدعين يستطيعون تحدي الظروف الحالكة ويسيرون على خطى النديم وحداد.

عبد الله النديم صوت الثورة العرابية

أدرك عرابي أهميه الكلمة في لحظات الثورة فاختار الأستاذ عبدالله النديم ابن الإسكندرية، والشاعر المبدع و الخطيب المفوه، وصاحب الإمكانيات العالية في الأدب والشعر والكتابة ليكون خطيبا لثورته ولم يخذل  النديم “عرابي” وجاب في أنحاء البلاد من الشمال إلى الجنوب يجمع الناس حول الثورة العرابية، ومبشرا بالقادم من حياة دستورية جديدة وعدل وحريه ومساواة، وكان صوتا للثورة وللمظلومين الذين كتبوا مظالمهم ضد الأعيان والباشوات والتجار ومن حُكم الخديوي توفيق، وانتشرت أفكار الثورة في القرى والمدن على لسان النديم الذي لقب بمؤذن الثورة العرابية.

انكسار الثورة واختفاء النديم

وكعادة الثورات ضد الاستبداد والطغيان في مصر هناك من يتربص بها دائما؛ فهناك من يرى أن صعود الشعب المصري إلى آفاق الحرية والاستقلال والعدالة خطر عليه، فتعاون توفيق مع الإنجليز لهزيمة عرابي وثورته، وانهزم الجيش المصري في التل الكبير وبدأ تصفيه الحسابات مع الثوار سواء من أبناء الجيش أو من المدنيين، واعتقل عرابي ورفاقه وتمت محاكمتهم، ونُفى عرابي إلى خارج البلاد، وأُعلن عن مكافأة مالية لمن يرشد عن عبدالله النديم صوت الثورة العرابية في محاولة لإسكات الصوت الذي يزعج الخديو والإنجليز معا، ويؤلب الشعب عليهم.

عشر سنوات في أحضان الشعب

 اختفى عبد الله النديم بين الشعب المصري عشر سنوات كاملة تَخَفَّى خلالها في صور متعددة؛ فتقلد زي شيخ مغربي تارة، ورجل صالح من الحجاز تارة أخرى، واستطاع الشعب المصري في ملحمة بطوله له أن يحمي النديم ويوفر له استقرارا.

ولم يتوان النديم خلال تلك الفترة أن يظل يحلم بالثورة ويبشر الناس في كل مكان ذهب إليه في كل محافظات الوجه البحري بالثورة القادمة، وأن يحاول أن يلتقي مع الشباب الجديد الذي بدأ يظهر في غياب العرابيين مثل: الزعيمان مصطفى كامل ومحمد فريد، واستطاع النديم خلال تلك السنوات أن يساهم بقدر كبير في تلك الفترة التي سبقت ثورة ١٩١٩، وفي التحضير لها.
لم ينكسر  النديم ولم يتوارى بحثا عن أمان شخصي .. لم يهادن حتى بعد ما تم اعتقاله ونفيه إلى إسطنبول حيث منحه السلطان العثماني منزلا وراتبا شهريا..
ومع ذلك ظل النديم دائما في منفاه وحتى مماته صوتا مدافعا عن الحق والحرية وعن جموع الشعب.. وهو مثال سبق فؤاد حداد -أبرز شعراء العامية-  الذي صار مسحراتي الوطن فيما بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧.

وكأن تاريخ المصريين يعيد ذاته فقد انكسرت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ صبيحة يوم الخامس من يونيو ١٩٦٧، وصحا المصريون على كارثة انسحاب الجيش المصري من سيناء واحتلالها من قبل الكيان الصهيوني، وغاصت البلاد في ليل عميق وانسحب من الساحة الأدبية من انسحب منكسرا أو مكتئبا، وانزوى معظمهم إلى حالته النفسية وتمرد الكثيرون على الأوضاع، فبعد أن طالت الأحلام عنان السماء، صحا الجميع على كابوس..

لكن فؤاد حداد الشاعر المصري المؤسس الحقيقي لشعر العامية المصرية انغمس في مكان آخر باحثا عن نقاط الضوء في حياة المصريين، وأبدع حداد المسحراتي ليكون موقظا للشعب المصري من هزيمته ويحاول أن يقدم من خلاله تلك النقاط التي تبث الروح في الشعب المصري من خلال كل ما هو إيجابي في حياة المصريين.

نور الخيال في تاريخ القاهرة

في رمضان من عام ١٩٦٩ قدم فؤاد حداد لإذاعة القاهرة وللشعب المصري عملا شعريا فريداً هو ” نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة”، وهو مجموعه حلقات في تاريخ مصر والعالم الإسلامي تحكي ملامح من تاريخ الأمة من عمر بن الخطاب إلى صلاح الدين، ومن عبد الله النديم إلى عبد المنعم رياض. استطاع حداد أن يغوص في التاريخ ليقدم لنا ملاحم عربية وإسلامية نستعيد بها الثقة في النفس والقدرة على العمل والانتصار والسعي إلى استكمال مشوار الثورة، والانتصار على الهزيمة، وانكسار الثورة، وفي هذا يقول فؤاد حداد: “املك عمر واملك صلاح الدين؛ طرب اليتامى ونقش إسلامي في سمع الزمن.. هي دي (هذه) كلمة عُمر كلمة صلاح الدين.. كلمة عرابي في ميدان عابدين”..     

هكذا استطاع شاعرنا الكبير أن يمسك بزمام التاريخ ليعيد علينا انتصارات تبعث الروح فينا وتحمسنا بانتصار على واقع مهزوم.. وعن حلمه الذي يراه قال فؤاد حداد: أنا سمعت الجنود يكبرون وسمعت طفلا يهلل وسمعت أما تهنئ ورأيت انتصارات كثيرة بإذن الله”.

الخضرة الزكية.. ملامح من التاريخ الإسلامي

بعد نور الخيال بعام وفي عام ١٩٧٠ يعود لنا فؤاد حداد ليبحث في الجذور عن هؤلاء الذين أسسوا دوله عظمى في صدر العصر الإسلامي ليحكي لنا عن هؤلاء الصحابة العظام الذين استطاعوا بناء الدولة بالتقوى والنقاء والإخلاص والأخلاق، وبقيم الإسلام العظيمة، وكأن فؤاد حداد يدلنا على مناطق وأخلاق النصر والبناء والتقدم؛ فقدم لنا العمل الإذاعي” الخضرة الذكية” والذي نشر في ديوان منتصف الثمانينات من القرن الماضي بنفس الاسم..

 إن فؤاد حداد يشير لنا إلى مناطق النور التي لابد أن نتدارسها ونتأملها حتى نضع أنفسنا على طريق النصر وإعادة بناء الدولة واستعادة ثورتنا؛فمن يا ترى يصبح صوتا معاصرا لثورتنا المهدورة؟!
والتي سُرقت منا في وضح النهار!
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه