في ذكرى النكبة: هل تفرض المقاومة الفلسطينية واقعا جديدا؟

القضية التي أرادوا موتها على موائد المفاوضات بين شرم الشيخ وأوسلو وكامب ديفيد لم تمت، ولم تخفت جذوة نارها في صدور أهلها.

 

 

واحد وسبعون عاماً مرت على نكبة الأمة في فلسطين أرض المقدسات الإسلامية منذ العام 1948 ، بينما تورط بعض الأنظمة العربية في نكبة جديدة صنعها هذا البعض بأيديه ويحاول فرضها على الشعب الذي لم يكف يوما عن المقاومة منذ إعلان إنشاء كتائب الشهيد عز الدين القسام إلي الآن، وبينما يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فرض واقع جديد على الأمة في نفس يوم الذكري في تحد سافر لمشاعر العرب والمسلمين يسانده في ذلك زمرة من الحكام المنتهكين لكافة الأعراف الدولية في معاملة شعوبهم، بإعلان ما يسمي بصفقة القرن يوم الخامس عشر من مايو/أيار الجاري أو على حد أقصي يونيو/حزيران المقبل، من دون الالتفات لأي من القوانين الدولية أو قرارات مجلس الأمن الخاصة بالقدس ، أو ما تمثله تلك المدينة من قداسة عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء ، وبينما يتعرض ترمب نفسه لضغوط شديدة داخل بلاده بسبب تجاوزاته القانونية إلا أن المساندة الصهيونية له وبقوة تدفعه لبذل المزيد من الجهد لحل الإشكالية من جذورها ، حتي ولو كان الحل كارثي باستبعاد شعب بأكمله من المعادلة ، يمثل هذا الشعب صاحب الحق الأصيل في الأرض والتاريخ والمقدسات ، فيمحو الأمل الأخير في حق عودة اللاجئين الذين مر على خروجهم واحد وسبعين عاما وأكثر ، بينما يورثون مفاتيح ديارهم لأبنائهم جيلا بعد جيل آملين ، بل موقنين في العودة لتلك الديار ، فهل ينجح ترمب ومن يسانده من حكام في فرض ذلك الواقع على العرب والمسلمين والعالم من جهة ، ومن جهة أخري على المقاومة الفلسطينية التي ترفض وبصلابة الرضوخ لأي من تلك الضغوط؟ هل تنجح آلة القمع التي تستخدمها الأنظمة العربية في إخماد الغضب المكبوت داخل الشعوب العربية وإسكاتها عن انتهاك المقدسات والتنازل عن الأرض والعرض والدماء؟ هل تنجح معركة الحصار والتضييق على الشعب الفلسطيني في غزة في دفعه للتنازل عن الأرض مقابل الحياة لمليونين من البشر يعيشون في أقسي الظروف الإنسانية لتمسكهم بحقوقهم التاريخية، وحق المقاومة حتى تحرير كل شبر في أرض فلسطين؟

ذكرى النكبة وتاريخ من الدماء والمذابح

عشرات من العصابات اليهودية تهاجر لأرض فلسطين تحت غطاء دولي قبل سقوط الخلافة العثمانية وبعدها بداية من العام 1904 ، لتبلغ تلك الهجرات الغير شرعية في أوجها  في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين والتي أجبرتها الأم المتحدة على إنهاءه عام 1947 بعد أن تضاعف عدد العصابات، وتضاعف عدد المنتمين إليها مثل عصابة الهجانة والأرجون وهاشومير وشتيرن ، والتي تحولت فيما بعد لأحزاب سياسية خرج منها  وزراء حكومة ورؤساء وزراء حكمت بنفس منطق العصابات، عملت تلك العصابات على تدمير خمسمئة قرية فلسطينية وتهجير أكثر من ثمانمائة ألف فلسطيني بناء على أرقام رسمية للمركز الإعلامي الفلسطيني، ليتفق المؤرخون على يوم الخامس عشر من مايو/أيار 1948 يوما للنكبة، بعد انسحاب معظم الجيوش العربية من أرض فلسطين، مخلفة وراءها وطنا شبه خاو من المقاومة بعد حرب دامية، وبعد انكسار الجيوش العربية التابعة لسلطة الاستعمار في بلادها وخيانة حكامها ، وبعد الاعتراف الدولي بدولة إسرائيل ليس باعتبارها كيانا محتلا، وإنما كدولة تريد القيام بثاني أكبر عملية إحلال في التاريخ بعد القضاء على الهنود الحمر في أمريكا وإحلالهم بالبيض لتتغير معالم البلاد بإبادة أهلها الأصليين.

في العام 1947، كان قرار التقسيم بالأمم المتحدة ليصير لليهود 56% من الأراضي بشكل رسمي، بينما يحصل الفلسطينيون أو من تبقي منهم على 43% من الأرض، ويمثل 1% مدينة القدس التي تركت مفتوحة دون سلطة أي من الجانبين، ليعاود الرئيس الأمريكي اليوم محاولة السطو عليها من جديد بشكل رسمي وقح بنقل سفارة بلاده إلي المدينة المحتلة ضاربا بعرض الحائط كافة المواثيق الدولية التي تحفظ لتلك المدينة قدسيتها ومكانتها، فارضا واقعا مبنيا على الأطماع الاستعمارية، والمصالح الشخصية في غيبة من هيبة المسلمين، ووحدة العرب، وفي ظل حالة انبطاح رسمي ربما لم تمر بها الأمة من قبل.

المقاومة الصلبة والتكاتف الشعبي

تغيرت المعطيات الدولية والخريطة السياسية العالمية بعد واحد وسبعين عاما من النكبة الأولي، فالقضية التي أرادوا موتها على موائد المفاوضات بين شرم الشيخ وأوسلو وكامب ديفيد لم تمت، ولم تخفت جذوة نارها في صدور أهلها، ولم تضع من ذاكرة العرب والمسلمين رغم تبدل الحال واستبدال الاستعمار بحكام وأنظمة تمثله وتعمل على شرعنة هيمنته على المنطقة، وإسرائيل التي كانت العدو الأول والأوحد، صارت قبلة الحكام، وموافقتها على مسوغات بقاء أي منهم لازمة لبقائه، وها هو الرئيس الأمريكي يهدد ويتوعد ويتخذ إجراءات من جانب واحد ليغير خارطة المنطقة العربية لتخدم مصالحه الشخصية ومصالح تل أبيب التي يعول عليها لتجنب عزله وطمعا في الترشح مرة أخري بضغط اللوبي الصهيوني الذي يقوده صهره بالبيت الأبيض، ويدور في فلكه أعرابا يستنزفهم بحجة حمايتهم ومن ثم يستنزفون شعوبهم ويشاركون في حصار الشعب الفلسطيني أكثر مما يفعل الصهاينة أنفسهم، وعلى الجانب الآخر تصنع المقاومة التي لم تكف يوما منذ ذلك التاريخ المشئوم حالة من الرعب في قلب الكيان والمستوطنات لتفرض كلمتها وتقف حائلا دون تنفيذ مشروع الخيانة، وتمثل الصواريخ التي كانوا يسمونها عبثية قلقا غير مسبوق يقف أمامه أقوي جيش بالمنطقة كما يدعون عاجزا عن اجتياح مساحة ضئيلة كغزة بريا، وتكون نتيجة كل اجتياح هرولة الصهاينة وطلب وقف إطلاق النار لما يفاجئوا به من جاهزية للمقاومة وتطويرا لذاتها ، فتجبر ترمب على تأجيل إعلان صفقة القرن أكثر من مرة، وها هي المقاومة تسطر اليوم بثباتها الأسطوري كلمات جديدة، وتفرض واقعا جديدا على كل الأطراف ليوقن الجميع أنه لا حل بعيدا عنها، ولا من دون الرضوخ لبعض شروطها .

هل تمرر الجريمة التاريخية بضغط عربي أمريكي؟

من العجيب أن يختار الرئيس الأمريكي تاريخ النكبة ليعلن فيها الانتهاء من صفقة القرن والتي تقضي بإسقاط حق العودة والتنازل عن الأرض الفلسطينية في مقابل أجزاء من أراض تضاف من مصر في سيناء والسعودية والأردن لتوطين الفلسطينيين بها كحل لدولتين متجاورتين، من العجيب أن يختار تلك الفترة خصيصا لإعلان صفقته الظالمة كمزيد من الامتهان للعرب والإذلال لهم، والأعجب منه أن تجد تجاوبا على مستوي الأنظمة وكأن أمر الشعوب والهوية والأرض والتاريخ لم تعد تعني هؤلاء الحكام من قريب أو من بعيد ، وقد ارتبطت النكبة في أذهاننا بانسحاب الجيوش العربية في 1948 من فلسطين وخيانة الحكام، لتستقر الصورة في الأذهان أكثر بنفس الخيانة والعمالة التي لم تتبدل فيها سوي الأسماء وحكم العسكريين الذين جثموا على صدر الأمة منذ ذلك التاريخ، فصدقوا على مشروع التقسيم الأول والمعروف باتفاقية سايكس ـ بيكو، فإذا بهم اليوم يصدقون دون وعي على مشروع تقسيم جديد ينسف إذا تم تمريره على القضية الفلسطينية من الأساس، ورغم يقيني بعدم قدرتهم على ذلك لحدوث الكثير من المتغيرات، غير أن القضية تمثل عقيدة إسلامية أكثر منها قضية سياسية، إلا أن انبطاح الأنظمة، وتشرذم الشعوب، واستسلامهم لطغمة من المستبدين هو ما يمد أجل تحرير المقدسات واستعادة الأرض المسلوبة ، إن العدو لا يفهم غير لغة واحدة ، فلغة التفاوض والاستجداء لا ولم تجدي يوما، وإنما لا يعرف سوي لغة واحدة، تلك اللغة أدركها الفلسطينيون حين طوروا من منظومتهم الصاروخية ليقضوا مضاجع المحتل ليس في المستوطنات المتاخمة للثغور وحدها ، وإنما لقلب عاصمتهم المزعومة تل أبيب، لقد أجبرت المقاومة الحرة العالم على الانتظار ، وقربت المسافة بين القوتين ، ومنعت الصهاينة من اتخاذ القرار منفردين، وما علينا اليوم إلا أن نعد لذلك اليوم الذي يجمعنا جميعا كأمة على مداخل فلسطين، وأما ما علينا نحن كأفراد فهو الدعاء، والتعريف بالقضية، وإحياؤها في قلوب المسلمين، وتربية أبنائنا على أن المقدسات هي مسؤولية كل مسلم، وأن الأرض كالعرض لا يجوز التفريط فيها، وأن العدو هو الصهيوني المحتل الذي يدنس أرضنا وبلادنا. إن فلسطين لم تكن يوما قضية تخص الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي قضية كل عربي وكل مسلم، وإن النكبة التي أصابتنا يوما في هويتنا آن لها أن تنتهي، وأن نكون جميعنا لسنا عونا للمقاومة فحسب، وإنما جزءا منها، ولنعلنها بعقيدة ثابتة، إن فلسطين، كل فلسطين، هي وقف إسلامي، وبلاد عربية لا تجوز هبتها، ولا التصرف فيها، ولا التنازل عنها لأية جهة مهما كانت، وعلى من يريد العيش فيها، أن يكون تحت مظلة الحكم الفلسطيني وليس غيره . المجد للمقاومة، المجد لفلسطين، المجد للشهداء.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه