في دولة العسكر المقاطعة والمشاركة خيرهما مر

 

 

نحن على أعتاب استفتاء لتعديل بعض بنود الدستور المصري بهدف واحد وواضح ومحدد وهو استمرار الجنرال في الحكم، وشهدت هذه الفترة جدلا شديدا ليس بين المؤيدين للتعديلات الرافضين لها وإنما الجدل كان داخل معسكر الرافضين للتعديلات حول مقاطعة الاستفتاء أم المشاركة فيه برفض التعديلات.

خلاف قد يبدو في ظاهره بسيطا، وربما كان بسيطا في ظروف أخرى أو في ظل أنظمة بها قدر من الديمقراطية تتيح لشعوبها القدرة على ممارسة حقها في التغيير، ولكنه في مصر يعكس أزمة معقدة وتصبح الإجابة عليه بالانحياز إلى أي من الموقفين أمرا شديد الصعوبة، فممارسة الديمقراطية وحقوق المواطنة وكافة الحقوق الدستورية في ظل الحكم العسكري الفاشي يعد دربا من دروب المستحيل.

المقاطعة

وبنظرة عابرة للمحتوى الأصولي للكلمة يتبين لنا أنها ليست ذات معنى إيجابي طوال الوقت ولا معنى سلبي دائما، كما أنها ليست حكرا على الأحداث والفعاليات السياسية، فقد عرفتها الحياة الاقتصادية بكثرة، وأيضا ليست حكرا على الجموع الشعبية فقد استخدمتها جماعات الضغط والدول الاستعمارية في كثير من الأحوال ومنذ تاريخ بعيد وكانت في معظم هذه المواقف تقترب من معنى كلمة الحصار، وأهمها على المستوى التاريخي حصار قريش لجماعة المسلمين في «شعب عامر» ومقاطعة التعامل مع أى شخص يؤمن بالدين الجديد بأى نوع من التعامل حتى الشراء والبيع، وفي العصر الحديث عرفت مصر المقاطعة السلبية عندما حاصرت بعض الدول الأوربية والولايات المتحدة مصر أثناء حربها مع إسرائيل عام 1973 معلنة مقاطعتها اقتصاديا للضغط عليها وتخفيف الضغط المصري على إسرائيل.

أما المقاطعة الشعبية الإيجابية فقد مارستها الشعوب بتلقائية واحتراف ومنها على سبيل المثال ما قام به الشعب المصري عام 1921 عندما قام الإنجليز بنفي سعد زغلول فقاطع المصريون البضائع الإنجليزية وكانت وسيلة ضغط فعالة على بريطانيا.

وأيضا مارسها المصريون في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في مواجهة تحالف الحكومة المصرية مع حكومة الكيان الصهيوني لفرض سياسة تطبيع العلاقات بين مصر وإسرئيل بإغراق السوق المصري بالسلع الإسرائيلية، وقاطع المصريون البضائع الإسرائيلية التي لم تلق أى رواج في السوق المصري حتى الآن رغم أسعارها الرخيصة.

 

المقاطعة السياسية

عرفت مصر نوعا مختلفا من المقاطعة السياسية لا يوجد إلا في الدول التي يكون فيها التطبيق الديمقراطي تطبيقا شكليا وغطاء لمحتوى ديكتاتوري فاشي، وهو ما يدفع الشعب إلى التفكير في فكرة المعارضة لقطع الطريق على الحكومات الفاشية بالظهور أمام العالم بصورة حكم رشيد محتواه ديكتاتوري ولا يعكس الإرادة الشعبية.

ظهرت دعاوى المقاطعة بقوة أثناء انتخابات 1979، وهي أول انتخابات تجري على أساس حزبي في مصر بعد إعلان المنابر السياسية في مارس 1976 وتحولها لأحزاب في نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس العام، ورغم أن الأحزاب المولودة في حضن النظام الحاكم وبشرعية محدودة قد تحمست للانتخابات إلا أن أصواتا قوية رفعت شعار المقاطعة تزعمها بعض من اليسار المصري الذي رفض الانضمام للأحزاب باعتبارها أحزابا كرتونية لا تعكس الحالة الديمقراطية في مصر، واستند دعاة المقاطعة إلى أن المشاركة الشعبية في هذا الانتخابات سيمنح شرعية لمجلس غير شرعي ستكون فيه الأغلبية للحزب الحاكم الذي يدير البلاد بنفس أسلوب الحزب الواحد، وتصدت أحزاب المعارضة الرسمية لدعاة المقاطعة وأجريت الانتخابات وشهدت تزويرا أثناء التصويت بشكل مبالغ فيه وانتهى الأمر لمجلس تمثل فيه المعارضة نسبة غير مؤثرة من الناحية العددية ومن الناحية الموضوعية تابعة لأحزاب كرتونية تتحرك في إطار سقف من الحريات ممنوح لها بحساب.

وظل الوضع في مصر على هذا النمط حتى بعد مقتل السادات وتولى حسني مبارك الحكم، واتسعت رقعة أحزاب المعارضة التي تعمل في إطار استقطاب سلطوي على حساب حصار المعارضة غير الحزبية سواء بالاعتقالات أو المطاردات أو الاستقطاب، وظلت دعاوى المقاطعة للفعاليات الديمقراطية الشكلية تظهر متقطعة بلا تأثير يذكر بسبب حصار المعارضين من الأحزاب الشرعية لها والذين أصبحوا أصحاب مصلحة في استقرار النظام الحاكم رغم فشلة في توفير العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي ورغم عدائه الشديد للديمقراطية.

وظهرت دعاوى المقاطعة بشدة أثناء انتخابات مجلس الشعب 2010. فقد كان واضحا للعيان أنها ستتم بتزوير واضح، وكان مبرر دعاة المشاركة أن وجود القوى السياسية في الشارع أثناء الانتخابات هو نوع من أنواع الاتصال الجماهيري لا ينبغي التنازل عنه، أما دعاة المقاطعة كانوا يرون أن المقاطعة فضح لنظام الحكم الفاشل وديمقراطيته الوهمية.

ومن المهم أن نعرف أن دعاوى المقاطعة التي رفعها اليسار المصري منذ عام 1979. كانت تحمل آلية المشاركة بفعاليات في الشارع، وطالبت كل الاتجاهات المقاطع أعضاؤها بالنزول للشارع أيام الانتخابات وقبلها والدعوة للمقاطعة من خلال لقاءات جماهيرية وندوات ومنشورات والكتابة على الحوائط وتعليق ملصقات ولافتات تدعو للمقاطعة، ورفض هؤلاء فكرة المقاطعة السلبية التي أطلق عليها البعض «الزم بيتك»

وفي 2010 كان الواقع المصري مشحون بتراكمات ثورية وظهر جيل جديد من الشباب ناقم على النظام القائم لهذا كانت دعاوى المقاطعة ذات طابع مختلف وأكثر تأثيرا عبر عنها الباحث الشاب آنذاك عمرو حمزاوي في مقال نشره مركز كارنيغي للشرق الأوسط؛ حيث نشر 8 أسباب للمقاطعة من أهمها:

•      عدم وجود ضمانات لنزاهة وحيادية وتنافسية الانتخابات.

•      الخبرة السلبية التي راكمتها أحزاب وحركات المعارضة جراء تدخلات الحزب الحاكم السافرة والمتكررة في سير كل الانتخابات التي أجريت بمصر خلال الأعوام الخمسة الماضية، وتلاعبه المنظم بنتائجها مستغلا في ذلك مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية والمال السياسي. هذه الخبرة السلبية، بالإضافة إلى الحضور الراهن للكثير من المؤشرات التي تقطع بتوجه الحزب الحاكم نحو تكرار تلاعبه وتدخلاته في انتخابات 2010، تذهب عملا بأوهام أو أحلام بعض المعارضين بإمكانية إجراء انتخابات نزيهة وتنافسية.

•      القيود القانونية والأمنية التي تواجهها أحزاب وحركات المعارضة في سعيها للاستعداد للانتخابات

•      فساد مقولة «مشاركة المعارضة في الانتخابات والحياة البرلمانية تكسب أحزابها وحركاتها فاعلية تنظيمية وحيوية شعبية وقدرات مؤسسية إضافية تمكن على المدى الزمنى المتوسط والطويل من منافسة الحزب الحاكم»

وأضاف حمزاوي في نهاية مقاله أن شرط نجاح خيار المقاطعة هو توافق أحزاب وحركات المعارضة المؤثرة عليه والتزامها تطبيقه الكامل.

وأجريت انتخابات 2010 وشهدت تزويرا وانتهاكات مبالغا فيها وكان ذلك أحد الأسباب المباشرة لثورة 2011 وهو ما يستند إليه دعاة المشاركة مؤكدين أن التراكم الحادث بسبب المشاركة والتفاعل مع الحدث هو السبب الرئيسي في إشعال شرارة ثورة 2011. ولو قاطع الشعب الانتخابات ما كان التراكم الثوري المسبب للثورة قد حدث.

الاستفتاء والدستور

بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وحتى يومنا هذا جرت في النهر مياه كثيرة انتهت برئيس عسكري يحكم الآن من خلال اختيار ديمقراطي شكلي عبر صناديق الاقتراع تم بنفس الأسلوب الذي كان يمارسه النظام الذي أطاحت به ثورة 2011 بل وبشكل أكثر فجاجة، وعادت المعتقلات والمطاردات بل والقتل للمعارضين، واليوم وفي نفس الإطار يسعى النظام الحاكم لإجراء استفتاء لتعديل الدستور ليضمن استمرار الجنرال الرئيس في الحكم مددا مفتوحة وسط سخط شعبي غير قادر على تفعيل إرادته عبر الصناديق الانتخابية وهو الوضع الذي أفرز وجهتي نظر خيرهما مر الأولى المقاطعة المدفوعة بالغضب الشعبي على حكم فاشي فاشل وهو ما سيفتح الباب أم النظام لتغير الدستور دون أي مقاومة أو مظاهر تدل على الرفض الشعبي للتعديل، والثانية يتبناها دعاة المشاركة مؤكدين أن الشعب الساخط يستطيع الحشد لرفض التعديلات ومتجاهلين تجارب الانتخابات الرئاسية للجنرال والتي زورت فيها إرادة الناخبين بشكل واضح ولم يبذل فيه النظام أي جهد حتى لتجميلها.

الحقيقة المؤلمة بين الموقفين أيضا أن النظام الديكتاتوري لن يسمح بمقاطعة إيجابية فعالة في الشارع ولا تعبير حقيقي عن إرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع، وهي قاعدة ثابتة أكدتها كل تجارب الشعوب الواقعة تحت حكم عسكري.

وتجربتنا القريبة أكدت أن سقوط مبارك كان بفعل ثورة شعبية حقيقية في مرحلتها الأولى، وانتكاسة الثورة كان بفعل الوقوع في شرك الممارسة الديمقراطية في ظل مشاركة العسكر في الحياة السياسية وتحت مظلتهم.

الشاهد كما ذكرت من قبل لا ديمقراطية ولا تداول سلطة في ظل حكم فاشي ديكتاتوري إلا عقب ثورة.. اللهم ثورة

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه