في تونس مصالحتان.. مع البوليس ومع اللصوص

عبد الرزاق قيراط*

كان الشعار الرئيسيّ لحزب نداء تونس ورئيسه قايد السبسي في الحملة الانتخابيّة التشريعية والرئاسية الأخيرة العمل على عودة هيبة الدولة. ويبدو أنّ القوم تقدّموا خطوات عملاقة في فرضها بواسطة سياسات قديمة ظنّ التونسيّون أنّ الثورة قضت عليها.

 

تتمثل هيبة الدولة التي يجري ترميمها ودعم أركانها في القيام بمصالحتين متزامنتين الأولى لفائدة البوليس والثانية لفائدة اللصوص، مع أسبقيّة ملحوظة للمصالحة الأمنيّة التي لا يمكن بدونها أن تنجح المصالحة التي تخصّ الميدان الاقتصاديّ، خدمة لرجال الأعمال والموظفين الفاسدين الذين سهّلوا الاستيلاء على المال العام طوال عقدين من فترة حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

 

وقد كثر الحديث عن المصالحة الاقتصادية في الفترة الأخيرة حتّى ساهم في إلهاء الناس عن التجاوزات التي تحصل يوميا في مراكز الإيقاف من قبيل التعامل مع المتهمين بالأساليب القديمة التي لا تحترم حقوقهم وحرمتهم الجسديّة. بيد أنّ الفضيحة الأخيرة التي وقعت أمام المحكمة الابتدائيّة بتونس، ساهمت في التنبيه إلى الخطر الداهم على مستقبل الشعب التونسيّ، حيث تمّ اختطاف مجموعة من الموقوفين برّأهم القاضي من شبهة الإرهاب فتمّ اقتيادهم إلى جهة غير معلومة للتحقيق معهم ثانية على خلفية تهم جديدة بالانتماء إلى جماعة إرهابية خطيرة… وبفضل حراك المجتمع المدنيّ ، أُطلق سراحهم وتمّ عرضهم على الفحص الطبيّ الذي أثبت تعرّضهم للتعذيب حسب شهادة أحد محاميهم الذي صرّح قائلا:” ظهرت نتائج الاختبارات الطبية التي وقع إجراؤها على الشبان الذين وقع اختطافهم من محكمة ابتدائية تونس، و قد أثبت الطب الشرعي تعرّض الشبان إلى التعذيب الفظيع ( أحدهم يحمل 25 إصابة في مختلف أنحاء جسمه ولن يشفى حسب التقرير الطبي قبل 2016!!”

 

إنّ التجاوزات الخطيرة التي يصرّ البوليس على اقترافها، لن توقفها التقارير الطبية، إذا لم تؤدّ إلى تطويق الجرائم التي يقوم بها أفراده المنفلتون في ظلّ حالة الطوارئ التي وقع تمديدها، وبتعلّة الحرب على الإرهاب التي قد تستغرق سنوات طويلة ستساهم دون شكّ في تغوّل الأجهزة الأمنيّة، لتسيطر على الفضاء العام متجاوزة جميع السلطات والقوانين وما خطّه نواب المجلس التأسيسيّ في دستور وُصف بكونه من أفضل الدساتير في العالم من حيث ضمانه للحقوق والحريّات. لذلك ينبغي أن تتبع تقارير الأطبّاء تحقيقاتٌ جدية تفضي إلى ملاحقة المتورّطين في جرائم التعذيب، وتضع حدّا لكلّ التجاوزات التي تهدّد مسار الارتقاء ببلادنا إلى مراتب الدول الديمقراطيّة العادلة

 

لقد تضاعفت الإيقافات العشوائيّة في ظلّ ما يسمّى بالحرب على الإرهاب، ومثّلت سياسة العصا الغليظة والقبضة الحديديّة الخيار الأوحد لحكومة تدّعي امتلاكها خططا واستراتيجيات للقضاء على الظاهرة من جذورها… وفي هذا السياق وجّه مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية ”سيراس”  رسالة مساءلة إلى رئيس الحكومة الحبيب الصيد حول عدم اعتماده لخطة شاملة لمكافحة الإرهاب أعدّتها لجنة موسّعة في فترة رئيس الحكومة السابق مهدي جمعة. وأكّد أحد الباحثين في المركز على أهميّة الوثيقة التي “تتضمن تشخيصاً لظاهرة الإرهاب وتطرح أسبابها ومخاطرها وامتدادها، وتقدّم حلولا ناجعة على المدى القصير والمتوسط والبعيد، وتوزع هذه الحلول على الوزارات المعنية (الداخلية، العدل، الثقافة، التربية، التعليم العالي، والشؤون الدينية) وعلى قطاع الإعلام والفاعلين المدنيين باعتبار أن مقاومة الإرهاب ليست من شموليات وزارة الداخلية فقط إنما تحتاج إلى حزام واسع..”

 

وردّا على تلك المساءلة، أكد المستشار لدى رئيس الحكومة المكلّف بالإعلام أنّه لا أثر لهذه الوثيقة. وأضاف:” إن هذه الوثيقة قد تكون عبارة عن اقتراح لاستراتيجية شاملة لمقاومة الإرهاب ومن المرجّح أنّه قد وقع تمريرها إلى وزارة الداخلية”.

 

وبتعبير أوضح، يمكن القول إنّ الوثيقة ضاعت أو أتلفت، ولا أحد يعرف مصيرها، ولا شيء يدلّ على أنّ رئاسة الحكومة مهتمّة بها، ولا نعتقد أنّ تمريرها إلى وزارة الداخليّة إن وقع فعلا يمثّل إجراء حكيما، لأنّ تلك الوزارة بحاجة ماسّة إلى خارطة طريق تصلح منظومتها الأمنية بما يتماشى ومقومات الدولة الديمقراطية، ليكون القانون فيصلا بين المواطن ورجل الأمن. والواقع اليوم، يثبت أنّ الإرادة لا تتوفّر للقيام بتلك الإصلاحات التي كانت تعتبر من مطالب الثورة، قبل أن تتجاوزها الأحداث، وتنقلب عليها نقابات الأمن التي ساهمت في تغيير الأولويات بما يخدم أعوانها ومصالحها الضيّقة.

 

تلك هي ملامح المصالحة مع البوليس التي ستحمي بالضرورة المصالحة الاقتصادية لفائدة رجال الأعمال الذين استولوا على مدخّرات الشعب التونسيّ بما حصلوا عليه من قروض ضخمة أدّت إلى إفلاس غير معلن لبعض البنوك… وعلى أساس تلك المصالحة، لا تنوي الدولة استرجاع أموالها، بعد أن قرّرت دعم البنوك المتضرّرة برسملتها ومنحها قرابة 800 مليون دينار على حساب المشاريع التنمويّة للنهوض بالجهات المهمّشة وتشغيل آلاف العاطلين.. وهذا دليل آخر على اضطراب خطير في مستوى ما تقرّره الدولة من أولويّاتها التي تخدم الأغنياء وتتنكّر لوعود ضللّت بها الفقراء والناخبين في المواعيد الانتخابية السابقة.

 

وعلى ذلك الأساس، لن يكون للانتخابات، مستقبلاً، قيمة تذكر، ما دامت لا تحقّق البرامج الموعودة. ولن يكون للأحزاب التونسيّة مصداقية في المستقبل بما أنها كانت تتنافس في لعبة ديمقراطيّة زائفة… كانت الانتخابات السابقة مجرّد حفلة تنكريّة تراقص فيها المترشّحون على أنغام الديمقراطيّة الجميلة، ثمّ عادوا إلى بيوتهم، فرحين بنجاح الانتخابات “النزيهة الشفافة”، وجلسوا أمام التلفزيون، ليسمعوا مع بقيّة أفراد الشعب أسماء الوزراء الذين تمّ اختيارهم بأيادٍ خفيّة “لتحقيق أهداف الثورة”. هكذا قال لنا الحبيب الصيد في إعلانه تشكيلة الحكومة التي نجحت في تحقيق المصالحة مع البوليس واللصوص، وحوّلت أهداف الثورة إلى زبد يذهب جفاءً، وهشيم تذروه الرياح.

*كاتب تونسي 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه