في الجزائر.. المرحلة الانتقالية ورغبات النخبة

 

هل الجزائر تعيش ثورة لتأسيس دولة جديدة أم حراك ثوري لتغيير أوضاع؟

إن الثورات المعهودة هي إرادة شعبية بقيادة معلومة صنعها الواقع والطموح والنضال من أجل تحقيق فكرة، تلغي الموجود وتؤسس لدولة وتنشئ مؤسسات وتبني نظام يناقض تماما السابق. 

وذلك كان واضحا في الثورات: البلشفية والفرنسية وثورة نوفمبر الجزائرية والثورة الإيرانية وغيرها.

وإذا استثنينا وجه المقارنة في الثورة التحريرية لأنها ضد المستعمر؛ فإن الثورات الأخرى كانت ثورات على الدولة القائمة لتأسيس نمط جديد لدولة تختلف جذريا في نمط الحكم من وراثي إلى شعبي أو إلى ديمقراطي أو إلى نمط ونظرية اقتصادية واجتماعية مناقضة تماما للتي كانت قائمة.

ميدان التحرير

لقد عاش العالم العربي قبل سنوات ما سُمي بثورات الربيع العربي، ولعل أكثر نموذج يستشهد به في هذه الحالة هو نموذج ميدان التحرير في مصر، لأن ذلك النموذج كان نتيجة نضال دام سنوات من طرف قضاة وإعلاميين وسياسيين وغيرهم، كل ذلك النضال أقنع ميدان التحرير أن يسلم تلك النخبة المناضلة قيادته والتفاوض نيابة عنه، ورغم كل ذلك تم تسليم السلطة للمجلس العسكري وليس لقيادة الحراك أو للنخبة التي ناضلت سنوات طوال ..

فضلا عن أن ثورة الياسمين في تونس بعد البحث عن حلول استقر أمرها النهائي عن طريق التفويض الدستوري لرئيس مجلس النواب.  

الحالة الجزائرية التي نعيشها هي أكيد حراك ثوري غير مسبوق ولكن لم تعلنه قيادة كقيادة الستة في ثورة التحرير الجزائرية ولا قيادة دينية (الإمام الخميني) كالثورة الإيرانية، ولا تراكم ضد النظام كما سلمت الثورة المصرية لنخبة طلائعية زمام أمرها ولا قيادة لينين كالثورة البلشفية التي أسست الاتحاد السوفيتي وغيرها ذلك. 

هنا في الجزائر شباب فاقد للأمل يقوده نظام شمولي يغتصب السلطة بتزوير إرادة الشعب بكل شيء  اعتمادا على الشرعية الثورية، وعجز  هذا النظام أن يبني مواطنة حقيقية ولم يبق استنادا على أي تفويض شعبي حر وديمقراطي، سوى عقدة الأبوة والوصاية والأحقية في تقلد السلطة ..
تشكلت نتيجة لهذه الحالة ردة فعل سلبية من طرف الشعب الذي استقال من كل مشاريع السلطة ..
هذه السلطة التي غلّقت في وجه الشباب كل أبواب الحوار،  لا عن طريق ممثلي الشعب لأنهم لم يأتوا بطريقة ديمقراطية، ولا عن طريق إعلام حر و نزيه، ولا عن طريق مجتمع مدني مفيد ولا غير ذلك ..
وأمام هذه الحالة للغلق والتسلط وتزوير الإرادة و منطق الوصاية  لم يجد هؤلاء الشباب إلا فضاء وسائل التواصل الاجتماعي للتحاور فيما بينهم ويصنعوا موعدا للحراك الشعبي من أجل التغيير الحضاري عن طريق التظاهر بعناوين محددة و واضحة:

لا للعهدة الخامسة .. لا لأسماء: رجال سياسيين ورجال مال .. ولا لكيانات واحزاب ومؤسسات .. ولا للتأجيل ولا للتمديد .. ولا للتدخل الأجنبي .. ولا للتمثيل أو ركوب موجتهم من أشخاص وأحزاب ..

ولم يقل مطلقا لا للدستور، ولم يقل نعم لمرحلة انتقالية او تأجيل انتخابات. 

رسالة بسيطة

إذن رسالة الحراك واضحة بسيطة ليست معقدة ولا تحتاج إلى شرح وغير مسموح بإضافة عليها إلا إذا أراد البعض ركوب موجة الحراك. 

هنا ينقسم الساسة والنخبة أمام قراءتها لقسمين:

قسم يقبلها كما هي لأنه ليس وصي على حراك الشعب ويرفض المغامرة ويبقى ضمن الرؤية الدستورية بالاستجابة لمطالب الحراك بتغيير نظام بأسماء وعناوين محددة وممارسات مجحفة، وهنا ممكن ندمج بين الدستور والروح الثورية للبحث في إطار توافق وطني عن حلول لا تتجاوز الدستور، وإنما تأخذ بعين الاعتبار كيف نتجاوز ممارسات النظام القائم في التزوير؟ وكيف نحتاط من ذلك مع عزل الكيانات والأسماء المعبر عنها في مليونات الشعب الجزائري؟

وقسم ثان يرى فيها فرصة لحلول تتجاوز تغيير النظام لتطالب بإلغاء الدستور ولتمس بأسس الدولة بما فيها من مؤسسات ونظم.

وهنا وجه الاختلاف:

إن الحالة الأولى هي حالة منسجمة مع مليونيات الشعب الجزائري الذي لم يثرْ ضد الدستور؛ وإنما يريد حياة كريمة وأن يحكم نفسه بنفسه بعيدا عن تزوير لإرادته وهي حالة تضمن انتقال سلس بين جيل الثورة وجيل الاستقلال في إطار مبادئ ومشروع المجتمع الجزائري الأصيل دون اي وصاية.

و الحالة الثانية: تطالب بإلغاء الدستور وهو باب لا يمنع من التأسيس لمرجعية المجتمع الجزائري بعيدا عن اَي آلية واضحة كيف يتم تمثيل الشارع أو تمثيل الأحزاب أو تمثيل السلطة القائمة أو تمثيل المجتمع المدني أو غيرها ممن لهم الحق في التمثيل؟ وكيف ينتخب أو يختار هؤلاء في ظل غياب مرجعية واضحة لاختيار الممثلين مما يحتم علينا الدخول في دوامة من له الحق و من ليس له الحق؟
وبعدها ندخل في أزمة أخرى: وهي كيف نصل إلى قرار توافقي بين إرادات مختلفة و توجهات أيدلوجية متناقضة وارتباطات أحيانا تتحكم فيها المصلحة أو الجهة أو الفئة أو ربما حتى  خارجية!!!

إننا حينما تكلمنا عن جمهورية جديدة قبل أشهر هي ليست دعوة منا لها أو تزكية، و إنما تحذير منا و توعية للرأي العام لرغبة خارجية في ذلك، وتلاحظ الآن بعض الساسة الغربيين، كيف يروّجون لذلك؟
وحينما تكلمنا عن مسودة دستور قبل عدة أسابيع بأنها جاهزة فإننا نعني تماما ماذا نقول؟
فإنه وأمام هذا المحظور فإن  الحالة الوحيدة التي نتجنب بها حالة التيه و الفراغ و الصراع والإعلان المتوقع من مكونات إدارية جغرافية يكرس فيها وضع جديد يصعب علينا تجاوزه؛ إلا الرضوخ إليه و إقراره، هو البقاء في الحالة الأولى، و لا يمكن أن نؤسس لنظام حكم أو دستور أو تقسيم جغرافي و غيرها؛ إلا عن طريق ممثلين منتخبين بالانتخاب المباشر من طرف الشعب صاحب السيادة و يمنحها لمن يشاء.

التكيف مع الروح الثورية

ومن حق النخبة التي لا تريحها هذه الطريقة للحلول في إطار الدستور مع الأخذ بعين الاعتبار التكييف مع الروح الثورية في العزل السياسي لأسماء وكيانات وفي الاحتياط من التزوير على حق هذه النخبة أن تؤطر حالة شعبية غير هذه الحالة.
وبيوم مغاير وحينها ترفع شعارات لثورتها المليونية ونسلم لها حينها بالقيادة المجتمعية، وبتغيير ما تريد تغييره من نمط الحكم ومن مشاريعه ودستور جديد تماما وغيرها: أي من حقها أن تلغي الدولة الحالية لبناء دولة جديدة بكل نظمها ودستورها ومؤسساتها.

 وإذا من كلمة أخيرة فإنه عندما تعجز النخبة (المدعية الديمقراطية) لقيادة عملية تغييرية عن طريق المجتمع لا يبقى لها إلا التنظير أو أحيانا ركوب الموجة المجتمعية والتي سرعان ما ينطفئ وهج الحراك وتسقط هذه النخبة لواقع قد يصعب عليها استيعابه.

ذلك هو الحراك سلاح ذو حدين!!!!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه