في احتفال تركيا بسلطان الشهور

بأصوات تكبيرات تنطلق من مآذن 85 ألف مسجد وجامع تستقبل تركيا كل عام "سلطان الشهور"، وسلطان الشهور هو الاسم الذي يطلقه اﻷتراك علي شهر رمضان المبارك الذي يتم الاستعداد لقدومه طوال شهر شعبان، حيث للأتراك فيه عادات وتقاليد خاصة ينفردون بها عن باقي الدول الإسلامية، والتي من أهمها تزيين المساجد بالأنوار الملونة، واللوحات المرحبة بقدوم الشهر الكريم التي توصل بين المآذن، والحفاظ علي آداء الصلوات في جماعة، والقيام بقراءة القرآن الكريم علي مدار 24 ساعة يوميا داخل قصر توب كابية؛ قصر الحكم أيام السلطنة العثمانية، حيث يزداد عدد زوار القصر التاريخي، الذين يقصدون زيارة الجناح الخاص به المعروف باسم جناح الأمانات المقدسة، وهو يضم بين جنباته الآثار الاسلامية المهمة، وبقايا مما ترك عدد من الأنبياء والرسل والقادة السياسيين والعسكريين في تاريخ أمتنا الاسلامية، فهناك يوجد سيف وقوس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبردته الشريفة، ورسالته عليه الصلاة والسلام إلي المقوقس حاكم مصر، وشعر من لحيته، وسن من أسنانه الشريفة محفوظ في صندوق من الذهب موشي بالحجارة الكريمة، ووعاء كان عليه الصلاة والسلام يشرب فيه الماء، كما تعرض عمامة سيدنا يوسف عليه السلام، وعصا يقال إنها عصا سيدنا موسى عليه السلام، وسيف سيدنا داود عليه السلام .
كما تضمن الأمانات المقدسة عددا من سيوف الخلفاء والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فهذا سيف علي بن أبي طالب عليه السلام، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب والزبير بن العوام وعمار بن ياسر وجعفر الطيار وخالد بن الوليد رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، كما يوجد مصحف سيدنا عثمان وهو مخطوط علي جلد غزال، حيث كان رضي الله عنه يقرأ فيه حينما استشهد، ويلاحظ أنه ملطخ بالدماء في عدد من صفحاته.
ويضم الجناح عددا من مفاتيح الكعبة المشرفة وقطعا من كسوتها والغلاف الذهب الذي كان يحيط بالحجر الأسود، وبعض مزاريب سطح الكعبة الشريفة، ونموذجا لها مصنوع من الجلد . إلي جانب رداء وصندوق يعودان للسيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول عليه الصلاة والسلام ، وبردة الحسين رضي الله عنه.
وهي الأثار الإسلامية التي تم نقلها من الحجرة النبوية الشريفة حيث قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم بالمدينة المنورة إلي مصر حيث قامت الدولة العثمانية بنقلها إلي إسطنبول قبل قرابة المئة عام بهدف حمايتها من السرقة أو التلف خلال فترة الحرب العالمية الأولى ، وتم توثيق المقتنيات المنقولة باعتبارها أمانة .
ومن عادات اﻷتراك المرتبطة بالشهر الفضيل زيارة جامع الخرقة الشريفة في منطقة الفاتح أقدم أحياء مدينة إسطنبول، حيث يحتضن عباءة الرسول علية الصلاة والسلام التي أحضرها السلطان سليم اول إلي إسطنبول عام 1516م، وتم بناء الجامع خصيصا لتحفظ فيه البردة عام 1611م، إذ تعد زيارة الجامع لإلقاء نظرة علي عباءة (بردة) الرسول الكريم من أشهر العادات الرمضانية للأتراك،حيث يتوافد اﻵﻵف كل عام من جميع أنحاء تركيا للتبرك برؤية البردة الشريفة .
وهو تقليد متبع في تركيا كما هو الحال عليه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، الا أن الاختلاف في تركيا يكمن في أن من يقوم بترتيبها والإشراف عليها هي البلديات، حيث يتولى كل حي الإشراف الكامل علي تلك الموائد التي تنتقل يوميا إلي أحد مناطق الحي علي مدار الشهر الكريم، ويشارك فيها الوزراء ونواب البرلمان ورؤساء اﻷحياء ورجال اﻷعمال الذين يتناولون إفطارهم بين الحاضرين .
ومن أشهر موائد الرحمن مائدة جامع السلطان أحمد التي تستوعب حوالي 20 ألف من الصائمين اﻷتراك والزائرين والسائحين من مختلف دول العالم، حيث تمتد المائدة من أمام المسلة المصرية إلي النافورة اﻷلمانية من الطرف الثاني لميدان السلطان أحمد، ومائدة جامع أبو أيوب اﻷنصاري الذي يزدحم يوميا بالزائرين والمصلين، حيث تحرص البلدية هناك علي غسل أرضية الساحتين الداخلية والخارجية للجامع بماء الورد طوال أيام شهر رمضان ، مع الحرص علي تعطيره ثلاثة أيام في الأسبوع بنفس العطر الذي تعطر به الكعبة المشرفة . وعموما فإن موائد الرحمن في تركيا تقام علي نفقة الدولة واﻷحزاب السياسية بالتعاون مع رجال اﻷعمال .
العادات الغذائية التركية في رمضان لها هي اﻷخرى طقوس ﻻ يتم التنازل عنها من قبل الكبار والصغار، يتصدرها تقليد تناول خبز البيدا المعروف باسم خبز رمضان، وﻻ تخلو منه مائدة تركية، حيث يصطف الصغار والشباب في طوابير أمام اﻷفران والمخابز من بعد صلاة العصر يوميا للحصول عليه، وهو نوع من الخبز ﻻيصنع عادة إلا في رمضان، وهو مستدير الشكل ومقسم من الداخل إلي مربعات مرشوشة بالسمسم أو حبة البركة وله رائحة جميلة وطعم شهي.
وعادة ما يبدأ اﻷتراك طعام الإفطار بتناول خبز البيدا مع عدة أنواع من اﻷجبان واللحوم المحفوظة والمصنعة والزيتون، تقدم وبجوارها أكواب من الشاي الذي يعشقه اﻷتراك، الذين يقومون بعدها لأداء صلاة المغرب ثم يعودون لتناول الشوربة، وهي طبق رئيسي علي المائدة التركية إلي جانب أنواع متعددة من السلطات واللحوم والمعجنات التي يشتهر بها المطبخ التركي ، ثم يسارع الجميع كبارا وصغارا بالتوجه إلى المساجد لأداء صلاتي العشاء والتراويح .
وعقب التراويح والعودة إلي المنازل يأتي وقت تناول الحلوى من بقلاوة وكنافة وقطائف وغيرها من أنواع الحلويات التي تتفنن النساء التركيات في صنعها لإرضاء أذواق أفراد أسرتها، والتي تقدم مصحوبة بأنواع من العصائر والمشروبات الباردة إلى جانب القهوة والشاي.
أما وجبة السحور فغالبا ما تحتوي علي البيض المخفوق والجبن والعسل والرايب إلي جانب الفواكه والشاي بطبيعة الحال، والتي تعد مع بدء سماع أصوات الطبول التي تنطلق بعد منتصف الليل بقليل، إنها طبول المسحراتي الذي ﻻ يزال يجوب الشوارع لإيقاظ الصائمين مجددا بعض الأدعية والابتهالات الدينية خصوصا في أحياء إسطنبول التاريخية والمدن الصغيرة .
أما الدراما التركية فلا مكان لها في أيام الشهر الفضيل، حيث تولي القنوات التليفزيونية جل اهتمامها لتفسير القرآن الكريم وسرد السيرة النبوية الشريفة، وتفقيه الناس في أمور دينهم ودنياهم .
الزيارات العائلية والسهر والسمر في رمضان من العادات الاجتماعية للأتراك حيث ﻻ يمر يوم من أيام الشهر الفضيل إﻻ وهناك ضيوف في المنزل التركي سواء من اﻷهل أو اﻷصدقاء، وهكذا تمضي أيام الشهر الفضيل الذي يوليه اﻷتراك اهتماما كبيرا، ومع اقتراب أيامه على الانقضاء تبدأ الاستعدادات لاستقبال عيد الفطر المبارك الذي يسميه اﻷتراك عيد السكر حيث تتفنن المحال التجارية في عرض وتقديم عشرات اﻷنواع من الحلويات والسكاكر الملونة التي يقبل علي تناولها الكبار والصغار احتفاء بقدوم عيد الفطر المبارك واستبشارا بقبول المولي عز وجل بما قاموا به من عبادات خلال الشهر الفضيل من صلاة وصيام وقراءة القرآن .
وتحرص كل أسرة علي توفير كميات إضافية من السكاكر والشوكولاتة لمنحها لأطفال الحي الذين يطوفون علي المنازل للتهنئة بقدوم العيد وللحصول علي حصتهم من حلواه .