فوز قيس سعيد يؤكد أن الشعوب تستطيع

 

فوز قيس سعيد برئاسة تونس أعاد الأمل في قدرة التغيير الشعبي على إصلاح بلاد العرب، بعد فترة حالكة السواد من الانقلابات التي أفسدت الموجة الأولى من الثورات، وسلمت السلطة للثورات المضادة، ولأهمية الحدث التونسي كانت هذه الفرحة الواسعة في العالم العربي لشعور الشعوب أنها استعادت زمام المبادرة، وانتزاع حقها في اختيار من يحكمها.

وكأن تونس التي انطلقت منها شرارة بوعزيزي التي أشعلت الثورات العربية تأبى إلا أن تقود مرحلة ثانية من التغيير، وتعيد الاعتبار للقوة الشعبية، ولكن التونسيين هذه المرة خرجوا عن القوالب الحزبية التقليدية واختاروا مرشحا من عامة الناس، متحررا من الرؤى الحزبية الضيقة ولا يحمل أوزار السياسيين المعتادة.

المبهر في انتخاب قيس سعيد ليس فقط المرشح الذي يتمسك بثوابت الأمة ويفخر بالانتماء للإسلام ويدافع عن قضية فلسطين ويتحدث العربية بطلاقة، وإنما الموقف الشعبي الرافض للفساد والمؤيد للشعب الفلسطيني والكاره للتطبيع، والتواق للحرية والخروج من قبضة دوائر السلطة القديمة إلى ساحة جديدة يؤسسها الشعب ويحميها.

رمزية قيس سعيد

لم تكن الانتخابات معركة عادية، ولم تكن شأنا تونسيا محليا، وإنما كانت ترجمة لصراعات إقليمية ودولية، ومنافسة بين ثقافة إسلامية وأخرى إستعمارية، وجولة مهمة بين الاستقلال والتبعية، وكانت طبيعة الصراع واضحة منذ البداية في كلا المرشحين ولهذا دخلا الإعادة في الجولة الثانية معا.

رجل القانون قيس سعيد لا ينتمي للأحزاب التي تحرص على المواءمات والتلون في المواقف وإظهار خلاف ما تبطن وتناور في بعض المواقف لتجنب الصدام ولا تجاهر بعلاقاتها السرية مع الخصوم المحليين والخارجيين، ولهذا كانت تصريحات قيس خارج السياق، فهو ضد السيطرة الفرنسية على تونس، ويعلن موقفه الصريح ضد “إسرائيل” ويعتبرها عدوا، متجاهلا ما هو سائد في الوقت الراهن في الأوساط السياسية العربية التي تهودت.

المرشح المقابل رجل الأعمال نبيل القروي صاحب قناة نسمة، اتخذ الموقف المضاد حتى أقصاه، فهو يحظى بالدعم الإماراتي والسعودي ويجاهر بمواجهة الإسلاميين، وهرول إلى الإسرائيليين يطلب معونتهم؛ فتعاقد مع شركة علاقة عامة يديرها ضابط الموساد آري بن مناشي، مقابل مليون دولار ليساعدوه في الحصول على الدعم الأمريكي، وعرض استعداده ليكون تابعا مطيعا لهم، وهو متهم بالفساد وخاض الجولة الأولى من الانتخابات وهو في السجن.

المفاجأة أن الشعب كان واعيا تماما لما يجري، ولم يتشوش بكثرة المرشحين وما يبث من معلومات وبرامج وضجيج انتخابي، ورغم التشتت في الانتخابات التشريعية بسبب اختلاف المرشحين واتجاهاتهم وتصوراتهم وعلاقاتهم بمناطقهم فإن الانتخابات الرئاسية كانت مختلفة، وتكونت كتلتان حول رمزي الصراع: قيس سعيد الذي ينتمي لأمته ودينه ووطنه ويطالب بالاستقلال، ونبيل القروي الذي ينتمي للاستثمارات الأجنبية والمتحالف مع الموساد ولا ينتمي لهويته العربية والإسلامية.

فضيحة القروي

تصرف نبيل القروي مثل باقي السياسيين الرافضين لهويتهم في الدول العربية؛ فتحالف مع الإسرائيليين لكنه لم يدرك أن الشعب التونسي لن يقبل بهذه الخيانة، وانقلبت الدنيا عليه عندما تم تسريب تعاقده مع ضابط الموساد إلى الإعلام، فارتبك هو ومعانوه والمتحالفون معه، فحاولوا الإنكار والتبرؤ لكن الفضيحة كانت قد انفجرت وعلم بها القاصي والداني.

خرج ضابط الموساد إلى الإعلام في مؤتمر صحفي وحكى قصة لقاءاته مع القروي ومساعديه وزوجته والمبالغ المدفوعة، وتم بث الفيديو ليراه التونسيون والعرب، ويبدو أن الإسرائيلي بن مناشي اضطر للظهور والحديث بعد الحملة الواسعة والهجوم عليه من بعض مساعدي القروي أمام موجة الانتقاد، وتكلم حفاظا على سمعة شركته التي لها تعاقدات مع دول عربية أخرى يخشى فسخها، وتحدث عن العقد وكال الشتائم لمعاوني القروي ووصفهم بأنهم أغبياء، إلا أنه أعلن عن تمسكه بمعاونة القروي لكونه المرشح الأفضل بالنسبة للإسرائيليين والأمريكيين، وقد تم الإفراج عن القروي قبيل الانتخابات بأيام فيما يبدو بعد تدخل أمريكي.

كان اتفاق القروي مع الضابط الإسرائيلي هو الفخ الذي أسقطه في عيون التونسيين، وقد عجز عن الرد في المناظرة التلفزيونية التي سبقت التصويت، وزعم أنه تعاقد مع شركة كندية ولم يكن يعلم أنها إسرائيلية! بل وظهر أمام قيس سعيد مهزوزا ليس لديه رؤية ولا يمتلك الثقافة التي تؤهله ليجلس على كرسي الحكم في قرطاج.

كانت المناظرة مع قيس سعيد هي القاصمة لحلم نبيل القروي ومن يقفون خلفه، وقد تابعها العرب مع التونسيين، وامتلأت مواقع التواصل بالتأييد العربي لقيس سعيد في مظاهرة له مغزاها، واقتنع التونسيون بأنهم أصحاب التغيير ورسم صورة مستقبلهم، خاصة الشباب الذين كان يخاطبهم قيس باعتبارهم المستقبل، وأنه جاء ليمكنهم من تحقيق أحلامهم.

من أقوال قيس سعيد أن “الشعب كالعصفور الذي خرج من القفص إلى الحرية وأنه لن يعود إلى القفص مرة أخرى”، وكم لامست هذه الكلمات شغاف قلوب الملايين في العالم العربي، وأعادت الثقة في أن المرحلة التي تعيشها الأمة بسبب الانقلابات مؤقته وستنتهي، وأن الأمة تتعافي، وستقود الشعوب الواعية التغيير وتحميه.

أن يفوز من قال إن “التطبيع خيانة” وأن يهتف الشعب التونسي وهو يحتفل بفوز قيس سعيد بأن “الشعب يريد تحرير فلسطين” دليل على أن الشعوب العربية حية لم تمت، متمسكة بثوابتها، وعلى العهد، وأن حملات غسل الأدمغة فشلت، وأن الدنيا تضيق على السياسيين المتصهينين الذين فرطوا في حقوق أوطانهم.

الإنجاز التونسي لن يقف عند تونس، وأهم درس من فوز قيس سعيد هو فشل مقوله أن الحاكم العربي “لابد أن توافق عليه أمريكا ولا تعترض عليه إسرائيل” التي قالها مصطفي الفقي في 2010 والتي اعتنقها بعض العرب الطامعين في السلطة، وكأنها قانون، وراحوا يهرولون خلف الرضا الإسرائيلي وباعوا أمتهم وشعوبهم وأوطانهم!

لقد أثبت التونسيون أن الشعب المتوكل على الله قادر على التغيير، وهو صاحب الحق في انتخاب حاكمه حتى لو كان ضد أمريكا وإسرائيل، وأكدوا أن الشعوب أقوى من الاستعماريين والغزاة على غير ما يرى المنهزمون وأذيال الخارج ووكلاؤه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه