فن التماحيك فى مدح صناعة “الأساتيك”

يتأكد لنا أنه من المحال إقامة أى مشروعات نهضوية حقيقية أو إخراج البلد من كبوتها الاقتصادية دون نهضة سياسية تطيح بالحكم الفاسد وأدواته.

بينما الناس نيام يحلمون بالخبز والأمان ووظيفة تكون لهم من الفقر ضمان، خرجت أبواق إعلام الحاكم الهمام تزف للشعب الجوعان خبر سعيد هام:

“5 ملايين دولار لإنشاء أول مصنع فى مصر لإنتاج مصنع للأساتيك والأقلام”

بشراك يا شعب مصر

ومنذ اللحظة الاولى لإعلان الخبر العظيم كان دور الإعلام السلطوي المثير، فهذا مقال لكاتب يعتبر أن رأسه أنظف من أي مفكر أو كاتب قدير، يقول الكاتب ذو الراس النظيف “وإذا كان منطقيا أن نضطر لاستيراد المنتجات التى لايمكننا إنتاجها أو المنافسة فيها، فأى مراجعة لفواتير الاستيراد تكشف لنا أننا ندفع عشرات المليارات فى استيراد منتجات يمكن تصنيعها محليا، وبعض السلع يبدو وجودها ضمن قوائم الاستيراد، أمرا مثيرا للسخرية، مثل الملابس الداخلية والفوط والأستيكة ورباط الجزمة وورنيش تلميع الأحذية ناهيك عن أكل القطط والكلاب، وكلها منتجات يمكن تصنيعها بشكل مناسب محليا” .

ويختتم هذا المقدمات التبريرية قائلاً “لقد بدأت مصر التصنيع بشعار «من الإبرة للصاروخ»، لكن تحولات كثيرة أطاحت بالصناعة، وربما الزراعة، لصالح الاستيراد، وأصبحنا نستورد من الإبرة للصاروخ، وعلينا أن نستعيد أى فرص حتى يمكننا الاستمرار في عالم لا يعرف غير المصالح. حتى لو بدأنا بالإبرة، أو الحذاء”.

إذا فالأمر عند الإعلامي ذي الراس النظيف يتعلق بالانهيار الذى أصاب حال الصناعة في مصر، وجعلها تستورد من الإبرة إلى الصاروخ بواسطة فسدة رجال الأعمال الذين يرون أن أرباح الوكالة للشركات الكبرى أكثر بمراحل من أرباحهم من إقامة صناعات تنهض بالبلاد وتخرج اقتصادها من كبوته، ولهذا كان على رجال الأعمال وتكتلات ومافيا الصناعات الثقيلة العالمية أن يجدوا الضمانات الكافية لهم ليتخلصوا من أي حكم وطني يرى في النهضة والصناعة طريقا وحيدا للارتقاء والنهوض بالوطن، ويضعوا بديلا عنه حكما فاشيا يقدم مصالح الاحتكارات والطبقات الفاسدة على مصالح عموم الأمة.

زمن محمد علي

عندما صعد الألباني محمد على إلى كرسى حكم مصر على أكتاف الجماهير، كانت الظروف الاقتصادية للبلاد شديدة التردي، وكانت الصناعة خربة بفعل عوامل كثيرة أهمها التخريب المقصود أو غير المقصود فى الصناعة، والذي تسبب فيه العثمانيون، بالإضافة إلى فساد المماليك من جهة والآثار السلبية للحملة الفرنسية من جهة أخرى، وإن كانت الأخيرة كان لها أثر فى لفت نظر المصريين للعلم والثقافة.

ورغم كل هذه الظروف قرر محمد علي إقامة نهضة قوية على كل المستويات في مصر، كان أهمها النهضة الزراعية والصناعية، ولم يقف محمد على عند حدود الظروف المحيطة ليضعها مبررًا لإقامة دولة شكلية وصناعة هزيلة، بحجة أن تحولات كثيرة أطاحت بالصناعة كما يقول إعلام السلطة المصرية الآن، فلم يبدأ محمد على ببناء مصنع لصناعة “لاى الشيشة” أو “الأستكية”، وإنما بدأ بإنشاء صناعات ثقيلة ومهمة ترتكن على ثراء مصر بالمواد الخام الطبيعية والزراعية، وأرسل البعثات للخارج ليكتسبوا الخبرات العالمية، ويكونوا دعما لهذه النهضة، وأدرك محمد على أن أي نهضة شاملة لابد أن تحيط نفسها بسياج من الثقافة والعلم فأرسل البعثات التعليمية وأنشأ المؤسسات الثقافية.

ربما يرى البعض أن محمد علي كان يقيم مشروعه النهضوي الخاص ليضمن إمبراطورية كبرى له ولأسرته من بعده، وأنه أطاح بالحكم الشعبي، وغدر بالقيادات الشعبية وحكم بالحديد والنار وأصبح أول ديكتاتور فى الدولة الحديثة، وقد أتفق مع هذا الطرح من الناحية السياسية إلا أنني أتحدث عن وسائل ومقومات وأدوات وخبرات النهضة طبقا للقاعدة العملية “ما لا يدرك كله لا يترك جله”.

وحتى الزعماء المصريين الذين أفنوا حياتهم دفاعا عن استقلال مصر عن الحكم الأجنبى والاحتلال، لم ينفوا الآثار الإيجابية لنهضة محمد على، ومن أهم هؤلاء مصطفى كامل الذى رأى أن محمد علي أيقظ القوى الحيوية في الأمة المصرية عن طريق التركيز على ضرورة نشر الوعي بأهمية العلوم والمعارف بوصفه من المواد الحيوية لإحياء الأمم وإعلاء قدرها، فقد ألقى محمد علي إلى الأمة المصرية السلاح الذي تحارب به الجهل والرذيلة ومفتاح التقدم والرقى وآلة المجد والمدنية، أي العلم الذي أحسن استخدامه وتوظيفه فكانت له الغلبة، التي يجب أن تسعي إليها الأمة المصرية وإلا قضت على الحاضر والمستقبل .

فترة حكم عبد الناصر

وما ينطبق على عصر محمد على ربما ينطبق بنفس المعنى بتفاصيل مختلفة على فترة حكم جمال عبد الناصر التى يراها البعض من الناحية السياسية فترة مظلمة معادية للحريات، لكن كانت تتميز بالتوجه الثابت تجاه النهضة الصناعية والتنموية.

والحقيقة أن الإجهاز على مشاريع النهضة فى مصر لم يكن مصادفة، وإنما كان أمرا مخططا له بإتقان وكان لابد من تمهيد الوضع السياسي وتغير بنية الطبقة الحاكمة وصناع القرار السياسى لضمان حدوث التخريب دون أى مقاومة، وبدأت الخطوة الأولى تحت مسمى الانفتاح الاقتصادى، وتلتها خطوات عدة اتخذت كلها عنوانا موحداً وهو “الإصلاح الاقتصادى” .. وتحت هذه المظلة أُغلقت غالبية الصناعات الحيوية وانهار التوازن الاقتصادى، ودخلت البلاد نفقاً مظلماً من الأزمات المزمنة، وأصبحت الدفة فى يد رجال أعمال فاسدين وكلاء للشركات المتعددة العالمية وأنظمة وحكومات أكثر فساداً وتأتمر بأمر الدول الكبرى وتقدم شعوبها قربانا لهذه العلاقات غير السوية بين طبقات وفئات فاسدة والاحتكارات العالمية.

ومما سبق يتأكد لنا أنه من المحال إقامة أى مشروعات نهضوية حقيقية أو إخراج البلد من كبوتها الاقتصادية دون نهضة سياسية تطيح بالحكم الفاسد وأدواته تحت راية ومظلة وعى شعبى بمصالحه، وإلا سنبقى أسرى لهرتلات صناعة الأساتيك وغزل البنات ونفيخة العيل ولا عزاء للفقراء والمعدمين والمرضى والجوعى.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه