فقه الائتلاف.. قواعد التعامل مع المخالفين بالإنصاف

والإنصاف مع المخالف مطلوب مع جميع المسلمين، وليس مع أصحاب الفكر والرأي فقط.

 

الإنصاف عزيز في هذا الزمان، ولذا حين تجد كتابا ماتعا عن الإنصاف، وإبراز هذه القيمة الغائبة، تكون قيمة الكتاب وأهميته، وحين يكون الكاتب من المشهود لهم بالتضلع في العلم الشرعي، والقلم السيال، تزداد أهمية الكتاب، وكتاب: (فقه الائتلاف.. قواعد التعامل مع المخالفين بالإنصاف) لصديقنا فضلية الشيخ محمود محمد الخزندار رحمه الله، يسد هذه الثغرة من المكتبة الإسلامية. وتعود أهمية كتاب (فقه الائتلاف) لعدة أسباب:

       أولها: أن الكتاب يعالج قضية من أخطر القضايا التي تصيب الحياة الفكرية في مقتل، وبخاصة أن هذا الداء استشرى بين أبناء الصحوة، وهو داء التناكر والتناطح، وعدم توحيد الصفوف، وعدم رعاية فقه الائتلاف، لم يعرف كثير من أبناء الإسلام العاملين له: كيف نختلف ولا نتفرق؟!

       ثانيها: أن الكتاب اعتمد على موروثنا الإسلامي من وحي ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ارتكز على فقه سلفنا الصالح خير جيل فقه الإسلام وطبقه، وكل ذلك يتضح في كم النقول الهائلة التي استشهد بها المؤلف، والتي لا تخلو صفحة من صفحات الكتاب منها.

       ثالثها: وسطية المنهج الذي تكلم به المؤلف حفظه الله، ولا غرو فهو يميل إلى الوسطية في الكتاب كله، بل في حياته كلها، وهذا أمر يعرفه كل من خَبُرَ محمود الخازندار رحمه الله.

       رابعها: امتلاء الكتاب بدرر الأقوال النيرة التي نقلها الكاتب عن أئمتنا بعد أن غاص في كتب التراجم كما يلحظ ذلك القارئ، وبخاصة كتاب (سير أعلام النبلاء) للذهبي، وغيره من كتب التراجم والفكر والفقه، وكانت تأتي النقول في موضعها، دون إقحام لها.

نظرة في الكتاب:

       وإني لأحار أي فصول الكتاب أتناول، وأي زهرة أقطف من بستان الكتاب، والكتاب كله زهور منتقاة أعجز عن الانتقاء منها. ولكن أشير إشارة سريعة إلى بعض ما في الكتاب.

تناول الكتاب: الخلاف وأنواعه، ثم بين أن الخلاف حتمي لا مفر منه، وذلك لاختلاف أمزجة البشر وأفهامهم، وأن البشر ليسوا نسخا كربونية متكررة، ثم بين أن للاختلاف حكما متعددة، وأوضح كيفية تضييق الخلاف، وأن من أهم وسائل تضييق الخلاف: تجنب أسبابه. وقد بين الكاتب معاناة أهل العلم من قلة الإنصاف، ضاربا بذلك أمثلة لمعاناة العلماء ومنهم: الإمام الشاطبي، وابن بطة، وابن تيمية وغيرهم رحمهم الله.

أما الباب الثاني، والذي عنونه الكاتب (الإنصاف في الولاء للحق) فقد تناول فيه داء العصبية وأنواع هذا الداء، ودواعيه ، ومظاهره، وأن العصبية تتنافى مع الإنصاف والبحث عن الحق، وأن المخرج من العصبية البغيضة يتمثل في: عدم العصبية لبشر غير الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكتاب غير كتاب الله. واعتبار الشيوخ أدلاء على الحق، وليسوا هم الحق ذاته. والاحتكام إلى فهم السلف، مع مراعاة أن هذا الفهم يظل في إطار فهم البشر للشرع، وكذلك إسقاط شهادات المتعصبين في مخالفيهم، فمما جر على الناس التعصب والبعد عن الحق، اعتمادهم على شهادة الخصوم في بعضهم، وعدم تحري هذه الشهادات، ومدى قربها وبعدها عن الحق.

والمخالف في الرأي والفكر يحتاج عند نقاشه وتقويم رأيه إلى إنصاف، فلا يوجد إنسان يخلو من الخير والشر، والصواب والخطأ، ومن أولى قواعد إنصاف الخصوم: عدم إهدار تاريخ المخالف لهفوة صدرت منه، سواء كانت هذه الهفوة فكرية أم خلقية، فكل بني آدم خطاء، ولا يوجد إنسان عاش ومات بلا أخطاء. وعند وجود الخطأ والصواب في شخص مخالف، يجب النظر إليه بهذه العين، فكل ميزان له حسنات وسيئات، وعلينا أن نغلب المحاسن على المساوئ، وعدم الاستخفاف به، سواء بفكره ورأيه، أو بشخصه.

وعند تناول أخطاء المخالف في الفكر والرأي، علينا أن نكون منصفين فيها، وألا نعتمد شهادات أقرانه، فمعظم أصحاب الفكر والفقه على مدار التاريخ عندما يشهد بعضهم في بعض ندر منهم المنصف، ولذا يقع البعض في هذا الفخ، فيكتب عن عالم ما بشهادة معاصريه من الخصوم، وأن نحذر من شهادة الكارهين للشخص، فغالبا ما يحركهم البغض والحقد، وعلينا ألا نضخم الأخطاء، بل نضعها في حجمها الحقيقي، دون تهويل أو تهوين، أو نجعل من الحبة قبة كما يقول عامة الناس في أمثالهم الشعبية.

والإنصاف مع المخالف مطلوب مع جميع المسلمين، وليس مع أصحاب الفكر والرأي فقط، لأن دائرة الإسلام واسعة، وعلينا أن نوسع خلق الإنصاف ليسع جميع الناس، بداية بأهل القبلة من المسلمين، وانتهاء بغير المسلمين، وبجميع الخلق، والقرآن يدعونا لذلك، مثل قوله تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب)، أي أنهم ليسوا جميعا مثل بعضهم.

الكتاب لا يغني عن قراءته كاملا هذا العرض السريع، ولكنها فكرة مختصرة جدا، عن كتاب أرى أهمية قراءته في هذا الزمن الذي كثر فيه الشقاق والخلاف، إلى درجة لم يعد أحد يحتمل الخلاف في كل قضية تقبل الخلاف، وإذا اختلف يتعصب لرأيه وحزبه وجماعته، دون إنصاف لمخالفه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه