فرنسا والعرب: دروس الديمقراطية والاستبداد

احتجاجاتُ “الستراتِ الصفراءِ” فِي فرنسا إشارةٌ أُخرَى إلى أنَّ النّظامَ الديمقراطيَّ ليس عادلاً بالكاملِ، ولَا هُو النّظامُ المثاليُّ لسعادةِ البشرِ، والمُساواةِ بينَهم، كمَا لا يضمنُ وجودَ حكوماتٍ تحظَى بالرِّضا العامِّ، وعدمِ تعرُّضِها للنّقدِ أو الخُروجِ علَى سياساتِها، هُو نظامٌ يحملُ مثالبَ ونواقصَ أيضاً بسببِ الصّوتِ المُرجّحِ، أيْ الفائزِ بـ” 50% زائد صوتٍ واحدٍ فقطْ”، وهذَا يعنِي وجودَ “50% أُخرَى ناقص صوتٍ واحدٍ” لمْ توافقْ علَى الرّئيسِ أو الحكومةِ المُنتخبةِ، لكنَّها لا بدّ أنْ ترضخَ لأغلبيةِ الصّوتِ الواحدِ الّذي هُو مثلُ “بيضةِ القبّان”.

النظام الديمقراطي الأفضل رغم العيوب

معَ هذا يبقَى النّظامُ الديمقراطيُّ بكلِّ ما يعترِيه منْ عيوبٍ ونواقصَ، وبكلِّ ما يفرزُه منْ نتائجَ صادمةٍ أحياناً – مثلَ انتخابِ دونالد ترامب رئيساً لأمريكا، وفوزِ الأحزابِ اليمينيّةِ المُتطرّفةِ في عمومِ بلدانِ أوروبا – هُو أفضلَ أنظمةِ الحكمِ حتّى اليومَ، بلْ أفضلَها علَى الإطلاقِ، أنظمةُ الحُكمِ الأخرى لا تتوفرُ فيهَا الحريةُ للشّعوبِ فِي الاختيارِ والتّرجيحِ لمنْ يحكمُونَهم، ولو بفارقِ صوتٍ واحدٍ، فالشرعيّاتُ التقليديّةُ الوراثيّةُ لا دخلَ للشّعوبِ فيها مُطلقاً بانتخابِ مَن يحكمُها، وقدْ ألغتْ كلُّ بلدانِ أوروبا هذِه الشرعيّاتِ معَ بدْءِ التحرُّرِ والاستنارةِ والخروجِ من عصرِ الظّلامِ إلى عصرِ الأنوارِ، والمَلَكِّياتُ بقِيتْ فيهَا مجرّدَ شرعياتٍ اسميّةٍ رمزيةٍ أقربَ إلى الفلكلورِ أو التّراثِ أو القطعِ المُتحفيّةِ التاريخيّةِ، وهذه الشّرعيّاتُ الّتي تنتمِي إلى عالمٍ قديمٍ لَا تزالُ موجودةً بكلِّ إرثِها في الحُكمِ المُطلقِ فِي المنطقةِ العربيّةِ، وتقريباً هِي المنطقةُ الوحيدةُ في العالمِ الّتي تتواجدُ فيهَا النظمُ الوراثيّةُ الكاملةُ.
 وهناكَ شرعيّاتُ حُكمٍ ليستْ تقليديةً، ولا هِي ديمقراطيةٌ على النّمطِ الغربيِّ الحداثيِّ تعتمدُ التداولَ السلميَّ للسُّلطةِ عبرَ الانتخابِ الحُرِّ النزيهِ مثلَ فرنسا وأمريكا والعالمِ الحُرِّ، فهِي أنظمةٌ جمهوريّةُ، لكنّها أقربُ إلى التوريثِ دونَ تاجٍ، والنموذجُ الصارخُ لهَا هُو بقيةُ بلدانِ المنطقةِ العربيةِ غيرِ الملكِّيةِ، وبعدَ إفشالِ الربيعِ العربيِّ استردتْ دائرةُ هذه النظمِ الحلقاتِ التي كادتْ أنْ تفقدَها واكتملتْ دائرةُ الحاكمِ الفردِ مُجدّداً، والتجرِبةُ التونسيةُ شديدةُ الهشاشةِ، وهِي لا تعكسُ ديمقراطيةً كاملةً وحقيقيّةً، هِي التوافقُ تحتَ الضّغطِ والإذعانِ حتّى لا يحدثَ انقلابٌ عليهَا لأنَّ قوةً شعبيةً مؤثرةً انتخابيّاً في الساحة ذات لونٍ إسلاميٍّ.

تحييد المؤسسات

لا شيءَ يُعادلُ الديمقراطيةَ أو يتفوّقَ عليهَا فِي منظوماتِ الحُكمِ فِي هذه المرحلةِ منْ تاريخِ العالمِ، ورُغمِ الصّوتِ الواحدِ فإنّها تبقَى الأكثرَ أماناً للمُواطنينَ، والأكثرَ أمناً للمُجتمعاتِ والأوطانِ، فهِي تنظمُ المتناقضاتِ داخلَ المُجتمعِ السياسيِّ والفكريِّ، وتحدّدُ الأدوارَ والوظائفَ والمهامَّ، وتوفّرُ العدالةَ والمُساواةَ في حدودٍ مقبولةٍ، وتمنحُ الشرعيةَ لمَن يحكمُ ولمْ يعارضْ، وهو نظامُ التراضِي والقَبولِ العامِّ، وتحييدِ المُؤسّساتِ عنِ التوظيفِ لصالحِ السلطةِ أو المُعارضةِ، لتبقَى المؤسساتُ للدولةِ وللشّعبِ، والدولةُ هِي لكلِّ مُواطنِيها بلا استثناءٍ، ولا تُجيّرُ لصالحِ الرّئيسِ ولو كانَ مُفوضاً مِنَ الناخبينَ بنسبةٍ كبيرةٍ، كما فِي حالةِ إيمانويل ماكرون فِي فرنسا (66,6%)، ولو كانَ زعيماً وبطلاً تاريخيّاً مثلَ شارل ديجول الأبِ الرُّوحِي والمُؤسسِ للجمهوريّةِ الخامسةِ الحاليةِ فِي فرنسا (1959-1969).

لماذا يضطر الفرنسيون للاحتجاج؟

اضطُرَّ الفرنسيونَ للخُروجِ للشّارعِ والتّظاهرِ احتجاجاً على سياساتٍ ضريبيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ وتقشُّفيّةٍ للرئيسِ بعكسِ وعودِهِ قبلَ انتخابِهِ بحياةٍ مُريحةٍ لمُواطنِيه، فِي النُظمِ الديمقراطيّةِ العتيدةِ مثلَ فرنسا لا يجدُ الناسُ أنفسَهم بحاجةٍ ضاغطةٍ للتظاهرِ الفئويِّ أو المطلبيِّ أو السياسيِّ، هناكَ حكومةٌ مُنتخبةٌ، ومعارضةٌ مُتحفزةٌ، ومجتمعٌ مدنيٌّ قويٌّ، وجماعاتُ ضغطٍ فعالةٌ، ومؤسّساتٌ إعلاميّةٌ مستقلةٌ، ومؤسساتٌ نشطةٌ لقياسِ الرأيِ العامِّ، وغيرُها منْ منافذَ وقنواتِ مُتابعةٍ ورصدٍ واستشعارِ مدَى شعبيّةِ القراراتِ والسياساتِ الحكوميّةِ، وتوصيلِ المطالبِ للحكومةِ، والكشفِ عن التذمّرِ والاحتقانِ، إضافةً إلى مُؤسّسةِ البرلمانِ التي تضمُّ مُمثلِي الشعبِ المُنتخبينَ المُعبّرينَ عنْ صوتِ النّاسِ، لا صوتِ الحُكّامِ، وهذا كلُّه يضمنُ المُواجهةَ السّريعةَ لأسبابِ الغضبِ ونزع فتيلِ الاحتقانِ والعملَ على حلِّ الأزماتِ قبلَ انفجارِها، لكنّ الحالةَ الفرنسيّةَ تكشفُ جانباً من عوارِ الديمقراطيّةِ حكومةً ومُعارضةً، فالرئيسُ المُنتخبُ، والذي فازَ حزبُه بأغلبيةٍ على البرلمانِ، وضعَ في ذهنِه أنّه مفوضٌ من أغلبيةٍ شعبيةٍ، وبالتّالي من حقِّه أنْ ينفّذَ أجندتَه كمَا يريدُ، لمْ يضعْ فِي ذهنِه أنَّ التفويضَ الواسعَ كانتْ له ظروفُه، وأنَّه قدْ مرَّ عليه 19 شهراً في الحُكمِ وشعبيتُه تراجعتْ، ولَو عُرضَ علَى الجمهورِ اليومَ فقد لا يفوزُ بالثّقةِ مُجدّداً، وهذا كانَ يحتمُّ عليه أنْ يقرأَ نتائجَ استطلاعاتِ الرأيِ العامِّ الّتي تكشفُ عنْ تدنّي شعبيّتِهِ. أمامَ هذا التصلُّبِ الديمقراطيِّ اضطُرَّ فرنسيونَ للخُروجِ والتّظاهرِ كأنَّهم في أحدِ بلدانِ العالمِ غيرِ الديمقراطيِّ، وكأنَّ فرنسا بلدٌ عربيٌّ أو إفريقيٌّ.

حقوق الإنسان المصونة والمنتهكة

لكنَّ النظامَ الديمقراطيَّ ولأنّه آمنٌ ولا يُقارنُ بشرعياتِ الحُكمِ الأُخرى وكلُّها غيرُ ديمقراطيّةٍ، هذا النظامُ يُتيحُ للنّاسِ أنْ تخرجَ وتعبّرَ عنْ مواقفِها دونَ تعرُّضِها للقمعِ، كمَا يفرضُ علَى المُؤسّساتِ أنْ تظلَّ علَى الحيادِ، فالشّرطةُ الفرنسّيةُ ورُغمَ حشودِها الضّخمةِ (89 ألفَ عنصرٍ في الشوارع السبت الماضي)، لكنّها لم تطلقْ رصاصةً واحدةً، ولمْ يسقطْ مواطنٌ واحدٌ قتيلاً، تستخدِمُ فقطْ الوسائلَ الآمنةَ، وهِي قنابلُ الغازِ، والتفريقُ، وفِي أحيانٍ قليلةٍ تُمارسُ العنفَ غيرَ المُؤذِي ملتزمةً بالقانونِ ضدّ منْ يبادرُ بالعنفِ، ونتائجُ مظاهرات “الستراتِ الصفراءِ” لعدّةِ أسابيعَ خلّفتْ عدداً محدوداً منَ الجرحَى بينَ المُتظاهرينَ، ومنْ عناصرِ الشّرطةِ، وعددُ المُعتقلينَ كانَ محدوداً أيضاً.
لنفرِض أنَّ مشهداً منْ فرنسا حصلَ اليومَ فِي غفلةٍ فِي بلدٍ عربيٍّ سواء كانَ منْ بلدانِ ثوراتِ الربيعِ، أو لمْ يكنْ، لا مانعَ هُنا أنْ يسرحَ الخيالُ فِي أنهارِ الدّماءِ الّتي كانتْ ستسيلُ، وفِي العددِ القياسيّ للجرحَى والمُعتقلينَ، وسيلٍ منَ التّصريحاتِ بتخوينِ المُتظاهرينَ واتّهامِهم بالتآمر على الدّولةِ ومُحاولةِ إسقاطِها والتمويلِ الخارجيِّ والتخريبِ، وشيطنِتهم بأبشعِ الأوصافِ، والتعرضِ للتعذيبِ وانتهاكاتِ حقوقِ الإنسانِ في السجون التي هي مسالخَ بشريةٍ، والبثِّ الإعلاميِّ التّحريضيِّ المتواصل، وكأنَّ البلدَ يخوضُ حرباً مع عدوٍّ خارجيٍّ على مدارِ السّاعةِ، وهذا وغيرُه هدفُه توصيلُ رسالةٍ لبقيةِ الشعبِ بأنَّ هؤلاء “الخوارجَ” ارتكبُوا الجُرمَ العظيمَ، وهُم سيكونونَ عبرةً حتّى لا يفكّرَ أحدٌ في شقِّ عصا الطّاعةِ للحاكمِ نصفِ الإلهِ.

عندما يتراجع الرئيس

معَ اشتدادِ الأزمةِ، خرجَ الرئيسُ الفرنسيُّ المُنتخبُ مُتراجعاً عنْ قراراتٍ له، ومُعترفاً بأخطاءٍ ارتكبَها شخصيّاً، ومُعتذراً بشكلٍ مُبطنٍ لشعبِه، ساعياً لإرضائِه، لأنّه يُدركُ أنّ هناك موعداً انتخابيّاً قادماً، وأنَّ المُحتجينَ سيكونونَ ضمنَ الناخبينَ، ولأنّه لا يريدُ أنْ يدخلَ تاريخَ الحُكمِ فِي بلادِه باعتبارِه تصرَّفَ مثلَ ديكتاتورٍ من العالمِ المُتخلّفِ، كما لا يرغبُ أنْ يكونَ منبوذاً مُحتقراً من شعبِه، وعرضةً لهجماتٍ ساحقةٍ من القوى والأحزابِ السياسيّةِ، ولا يريدُ لصورِته أنْ تهتزَّ في المُحيطِ الأوروبيِّ والغربيِّ الحضاريِّ، وفي عمومِ العالمِ الحرِّ الذي لا يقبلُ بشبهةِ استبدادٍ من حاكمٍ فيه.

من الربيع إلى الحروب والقمع

في فترةِ صعودِ الربيعِ العربيِّ، عاشتْ شعوبٌ عدّةٌ حُلماً غيرَ مسبوقٍ منَ الحريةِ، كانتْ مثلَ فرنسا بلْ أفضلَ، لم تكنِ المظاهراتُ السياسيّةُ والاحتجاجاتُ الفئويةُ تُواجَهُ بالشّرطةِ المُدججةِ مثلَ الشّرطةِ الفرنسيةِ، ولم يكنْ هناك عنفٌ ضدّها، فقط كان هناك قاتلٌ متخفٍّ يقتنصُ ضحاياه في مظاهراتٍ واعتصاماتٍ بعينِها لأسبابٍ يعرفُها هُو، لكنْ بعد تحويل الربيعُ إلى حروبٍ أهليّةٍ وإقليميّةٍ ودوليّةٍ، وبعدَ تحويلِه إلى آلةِ قمعٍ رهيبةٍ، لم يعُدْ مُمكناً التشبُّهُ بفرنسا ولا بأيِّ بلدٍ أقلَّ منها في مساحةِ الحريةِ، الذي يبقى منه هو الحسرةُ على الواقعِ اليومِ، وتذكُّرُ ما كانَ قبل سنواتٍ بألمٍ، ولعلَّ في ذلك درساً تاريخيّاً قاسياً لمُختلفِ قوى الثورات والتي لمْ تدركْ قيمةَ اللؤلؤةِ الثمينةِ التي كانتْ بين يدَيها، ولمْ تضعْ في حسبانِها المستقبلَ المُبشّرَ الذي كانَ سينقلُها معَ شعوبِها إلى إشعاعاتٍ من النورِ والحريةِ والقطيعةِ مع التخلفِ والاستبدادِ مثلَ ما حدثَ معَ فرنسا ونظيراتِها قبلَ أكثرَ منْ قرنٍ من الزمانِ، هؤلاء فرّطُوا في الدُّرةِ العظيمةِ بسذاجةٍ نادرةٍ، ولهذا يُلامونَ أولاً وأكثرَ من غيرِهم، وعليهم الندمُ طويلاً.

الديمقراطية والاستبداد

في الأخيرِ تبقى الديمقراطيةُ هِي النظامَ السياسيَّ الأفضلَ على وجهِ الأرضِ اليومَ، وهي تستحقُ النضالَ والتضحياتِ لأنّها توفّرُ الحياةَ الحرةَ الكريمةَ دونَ استعبادٍ. هي الفريضة السياسية لهذا الزمان. 
ويبقى الاستبداد مهما كان اسمُه أو صورتُه حالةً بشعةً لا إنسانيةً، وصورةً ظلاميةً تنتمي لزمنِ البربريةِ في حُكمِ البشرِ الذين خلقَهم اللهُ أحراراً فيحولُهم الطغاةُ إلى مُستعبَدِين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه