فتنة السجون تاريخ يكرر نفسه

ما أشبه الليلة بالبارحة، نظام قمعي عسكري يعتقل آلاف المصريين ويسومهم سوء العذاب دونما اتهامات حقيقية، ثم يساومهم على حريتهم بمزيد من الإذلال والترهيب، حدث هذا في الخمسينات والستينات والتسعينات ثم ها هو يكررها اليوم.

في الأيام القليلة الماضية خرجت للإعلام رسالة منسوبة لبعض المعتقلين في السجون المصرية تتحدث عن جحيم تلك المعتقلات وما يعانيه فيها السجناء السياسيون، وما تعانيه أسرهم خلال الزيارات وفي معيشتها العادية، ثم تبع تلك الرسالة الإعلان عن مبادرة لإخراج المعتقلين (ممن لم يرتكبوا عنفا حسب الرسالة) نظير تعهدهم بعدم المشاركة في أي عمل ديني أو سياسي، ودفعهم فدية مالية قدرها 5 آلاف دولار لصندوق تحيا مصر.

لا يمكنني المساواة بين الرسالة الأولى والمبادرة التي تلتها، رغم الارتباط الزمني والموضوعي، إذ إن رسالة المعتقلين بغض النظر عن عدد من وقعها أو أيدها تتضمن معلوما من السجن بالضرورة، عاشه واقعا كل من مر بتجرية السجن، ويعرفه كل متابع لأوضاع السجناء والمعتقلين وأسرهم، وبالتالي فلا تشكيك فيما تضمنته من بشائع يتعرض لها السجناء وتدفعهم لطلب النجدة بأي شكل، ولهم العذر في ذلك فليس من ذاق كمن سمع، وهذه الأصوات التي تئن من شدة القمع والتعذيب ولا تطيقهما موجودة قبل هذه الرسالة وستوجد بعدها وحيثما استمر القمع والتعذيب، لكن المعلوم أيضا من السجون بالضرورة أن هناك تنوعا بين المعتقلين في قدراتهم ودرجات تحملهم، فمنهم الصامد الثابت، ومنهم متوسط الثبات، ومنهم الضعيف الذي لا يقوى على مواجهة ذلك التعذيب والإهانات و”بهدلة الأهل” (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

البحث عن مخرج

أما المبادرة المنسوبة للسجناء فإنها تخضع بالتأكيد للتمحيص، وهل صدرت من داخل السجن أم من خارجه؟ وهل كاتبها سجين أم حر يعيش في إسطنبول؟، وهل هو شخص واحد أم مجموعة؟ وإذا كان من المنطقي والمبرر تماما أن يبحث السجناء عن مخرج عاجل، فإن ما تضمنته المبادرة بدفع “أتاوات” أو “فدية” لصندوق السيسي هو نوع من الإذلال والإهانة للمعتقلين وتصويرهم كعبيد يريدون التحرر مقابل دفع المال، بينما هم أصحاب حق وينبغي أن يحصلوا على تعويضات مادية ومعنوية عقب خروجهم، وهو ما حدث مع سلفهم الذين حبسوا في كل العقود الماضية.

لم تغب قضية المعتقلين يوما عن اهتمامات من هم خارج السجون لكنهم يبدون عاجزين عن فعل شيء ملموس لأسباب متعددة منها ما يتعلق بتدهور أوضاع أكبر كيان معارض (الإخوان المسلمين)، وإلى جانبه بقية الكيانات الثورية والسياسية المعارضة، ومنها ما يتعلق بتغول النظام الحاكم وتمتعه بالدعم الإقليمي والدولي، وممارسته للقوة الغاشمة ضد معارضيه، ومنها ما يتعلق بتواطؤ المجتمع الدولي مع هذا النظام، وحيلولته دون مساءلته والضغط عليه للإفراج عن السجناء، وتوفير محاكمات عادلة وشفافة، وتوفير الدواء والغذاء المناسب لهم حتى حصولهم على حريتهم.

هناك 3 منغصات تكدر المعتقلين وتبث فيهم اليأس، أولاها: المناخ السياسي العام ًوغياب الأفق والوضع التنظيمي لقيادتهم في الخارج ومدى تماسكها وقدرتها الإدارية.

وثانيها: حالة أسرهم ومعاناتها الاقتصادية والمعيشية بسبب غيابهم.

وثالثها القمع والتعذيب والمعاناة التي يتعرضون لها داخل محبسهم

نظريا يستطيع الساسة والنشطاء والمقتدرون (سواء خارج السجن أو خارج مصر) أن يساعدوا المعتقلين في حل ثلثي مشكلتهم، وهما الوضع السياسي والتنظيمي ثم المعاناة العائلية (وهذان الأمران يحتاجان تضافر كل الجهود لتحقيقهما)، وإذا حدث ذلك فإنه سيمنح قوة معنوية إضافية للسجناء لمواجهة ما يتعرضون له من معاناة داخل محابسهم، وهذا لا يعني القبول باستمرار حبسهم، بل يلزم بذل كل جهد لإنقاذهم بطريقة محترمة تحفظ لهم كرامتهم.

إقرار التوبة

فتنة السجون التي تنتشر هذه الأيام سبقتها فتنة مصنعة بأيدي الأمن في العام 2015، حين أوهم رجال الأمن الوطني المعتقلين بأن توقيع إقرار توبة، والتنصل من جماعة الإخوان سيخرجهم من السجن على الفور، وقد انطلى ذلك على البعض فوقعوا، وتم تجميعهم في عنبر واحد تمهيدا لخروجهم، لكنهم لم يخرجوا حتى اليوم، بينما رفض البعض التوقيع (أعرف حالات شخصية) وخرجت هذه الحالات بعد شهر أو شهرين فقط من الرفض.

حدثت هذه الفتنة مرات من قبل، أولاها أثناء العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، حيث عرض بعض الضباط الإخوان المسجونين استعدادهم للقتال في صفوف الجيش المصري، وطورت المباحث العامة الفكرة إلى ضرورة كتابة تأييد للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وضغطت بشدة على أسر الإخوان لدفعهم للضغط على ذويهم السجناء، وهو ما فعلته الأسر تحت تأثير الوعد والوعيد، واضطر بعض الإخوان للتوقيع بينما رفض آخرون، وظل بعضهم رهن الحبس لعشرين عاما متواصلة وعلى رأسهم المرشدون السابقون عمر التلمساني، ومحمد حامد أبو النصر، ومصطفى مشهور، ومهدي عاكف، وكذلك الراحل محمد العدوي، والحاج أحمد حسنين وغيرهم، وقد تكرر الأمر مع الإخوان في الستينات وتكررت الردود أيضا.

وفي التسعينات تعرض سجناء الجماعة الإسلامية لتعذيب بشع، وبدأت المبادرات تظهر أواخر التسعينات (يوليو 1997) بعد موجة من الإعدامات والتصفيات الدموية لقادة وكوادر الجماعة، ثم كانت المراجعات والتعهدات الكبرى في العام 2002 بصدور سلسلة من الكتب التي تتضمن نقدا ذاتيا للكثير من المواقف والسياسات التي اتبعتها الجماعة من قبل، وذلك بعد سلسلة من الحوارات والاتصالات مع أقطاب نظام مبارك تبعها الإفراج عن معظم كوادر الجماعة وإن استمرت القيادات الكبرى إلى ما بعد ثورة يناير.

لا يمكن لحر خارج السجون أن يزايد على أسير بداخلها، ولا أن يضغط عليه لاحتمال المزيد من الأذى بينما هو غير قادر على إخراجه من محبسه، ولكن ليس من المقبول أيضا تصوير أمر التوبة ودفع الفدية باعتبارها الطريقة المثالية لتحرير السجناء، وليس من المقبول رفع قميص المعتقلين في وجه كل من يدعو لمقاومة الظلم والاستبداد، فهذه المقاومة هي التي ستحرر الوطن وستحرر المعتقلين وترفعهم فوق الرؤوس كما حدث في مرات كثيرة من قبل في مصر وغيرها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه