فبراير الأسود ومنظومات الحماية بعد ثورة يناير

وسرعان ما أصبحت اليد العليا في مصر لمنظومة واحدة فقط هي المنظومة السيادية أو بمعنى أدق منظومة القوة بجناحيها: المخابرات العامة والمخابرات الحربية

 

 

“الخريطة الاجتماعية في مصر في ظل المأساة التي تعيشها البلاد مفيش (لا يوجد) حد يقدر يعيش مطمن (مطمئن) على كرامته وحياته وأسرته غير الأفراد اللي في هذه المنظومات الثلاث..

“منظومة الجهات السيادية، وهي الحكومة وأمن الدولة والمخابرات بأنواعها، ومنظومة العدالة وهي القضاء والنيابة والشرطة ومنظومة الثروة، وفي الحقيقة المنظومة دي تتعامل وتكاد أن تشتري المنظومتين التانيين الأخريين”.

هذه الجملة الطويلة قالها دكتور علم الاجتماع بطل فيلم فبراير الأسود (خالد صالح) لأسرته المكونة من زوجته وابنته ذات العشرين عاما، وابنه طالب الثانوية العامة، وأخيه عالم الكيمياء، وزوجة أخيه عالمة الفيزياء في مشهد تبحث فيه الأسرة عن حماية لها داخل مجتمع ما قبل ثورة يناير..

وذلك بعد أن اكتشفوا أن العلم والبحث العلمي لا يوفران الحماية لهم في مواجهة صاحب الملهي الليلي المواجه لهم في السكن.

وفي مشهد من أهم مشاهد فيلم فبراير الأسود للمخرج والمؤلف المصري محمد أمين صاحب الأفلام الأربعة التالية تأليفا وإخراجا، وهي: (فيلم ثقافي) إنتاج ٢٠٠٠، (ليلة سقوط بغداد) ٢٠٠٨، (بنتين من مصر) ٢٠١٠، و(فبراير الأسود) ٢٠١٣ أي بعد ثورة يناير بعامين.

وتبدأ الأسرة في البحث عن طريق للحماية الاجتماعية عبر الارتباط بالزواج من أحد أبناء هذه المنظومات الثلاث، وإلا سيتعرضون للضرب بالأحذية، بحسب كلام بطل الفيلم دكتور علم الاجتماع.

أما الطريق الآخر الذي ذهب إليه فقد كانت الهجرة للخارج بأي وسيلة سواء كانت لجوءا سياسيا، أو أي لجوء آخر عن طريق مولود جديد لهم يولد في بلد محترم يقدس العلم والعلماء، فيحصل المولود على جنسية توفر لهم الحماية الاجتماعية المطلوبة.

وهذه الوسيلة انتشرت جدا في مصر في سنوات ما قبل يناير؛ فمعظم أبناء الفنانين ورجال الأعمال ولاعبي الكرة إذ قاموا بالسفر إلى دول أوربية والولايات المتحدة للولادة فيها ليحصل أبناؤهم على جنسية هذه الدول.

المنظومة السيادية

وتمتد هذه النظرية بين أفراد من الطبقة المتوسطة أو الأعلى منها؛ فيجمعون معظم ما يملكون ويذهبون إلى هناك من أجل هذه الجنسية التي تمثل حماية لهم في مجتمع أصبح الالتحاق بالمنظومات الثلاث فيه صعب جدا، وإن تحولت في السنوات الأخيرة إلى منظومة واحدة هي المنظومة السيادية التي سيطرت على المنظومتين الأخريين.

وفي نهاية أحداث فيلم (فبراير الأسود) تقوم ثورة يناير لحظة زواج ابنة دكتور الجامعة بأحد رجال المنظومة السيادية فيطلب الدكتور من العريس والمأذون تأجيل عقد القران حتى يتبين النظام الجديد..

فربما يأتي نظام يعمل لصالح البلد، ويُعلي من قيمة العلم والعلماء، ويستدعي الرجل خطيب ابنته الأول العالم، وخطيبها الثاني القاضي ليجلس الجميع أمام العروس في انتظار ما تسفر عنه ثورة يناير.

والآن ماذا حدث لهذه المنظومات الثلاث التي كانت تستطيع أن تقدم الحماية الاجتماعية لأسرة عالم الاجتماع الذين يحبون العلم والبحث العلمي؟

لم تكن الفترة من يناير ٢٠١١ وحتى منتصف ٢٠١٣ فترة تستطيع أن ترصد من خلالها تطور   المجتمع، ولا تطور المنظومات الثلاث التي كانت إلى حد كبير بالفعل هي منظومات الحماية قبل يناير.

كانت الفترة التي أعقبت يناير حركتها شديدة ومتسارعة جدا فقد ظهرت قوي سرعان ما استطاعت قوي نظام مبارك التي لم تسقط ولم يسقط نظامه أن يحتويها فتره ثم ينقض عليها واحدة تلو الأخرى تشويها واعتقالا وسجنا وأصبحت خارج الحسابات قبل أن تولد فما لبثت أن وجدت حتى اختفت تحت ضربات نظام عتيق لم يسقط بعد

وسرعان ما أصبحت اليد العليا في مصر لمنظومة واحدة فقط هي المنظومة السيادية أو بمعني أدق منظومة القوة بجناحيها: المخابرات العامة والمخابرات الحربية.

الاحتواء

لقد استطاعت هذه المنظومة أن تحتوي المنظومتين الأخريين: منظومة العدالة، ومنظومة الثروة سواء تم لها هذا بالترغيب عن طريق زيادة مرتبات، ومكافأة وشراء ولائها بزيادة متتالية وكبيرة في دخلها الاقتصادي

وهذه المنظومة ضمت القضاء والنيابة والشرطة وأفراد القوات المسلحة سواء من هم داخل الخدمة أو على المعاش من القدامى، أو الترهيب عن طريق إبعاد المناوئين أو الشرفاء منهم عن مناصبهم سواء باللعب في القوانين..

كما حدث مع المستشار هشام جنينة أو المستشار يحيي الدكروري صاحب الحكم بمصرية جزيرتي تيران وصنافير، وكذلك المستشار زكريا عبد العزيز والمستشار محمود الخضيري..

الأخيران ومعهما المستشار جنينه اتهموا في قضايا سياسية، ويقبع منهم جنينة والخضيري الآن في سجون النظام.

كما أن معظم قضاة تيار الاستقلال اختفوا تماما من على الساحة، إضافة إلى اختفاء دور معظم قضاة مجلس الدولة، وهو المجلس صاحب الأحكام التاريخية في تاريخ القضاء المصري في عهد مبارك..

هكذا استطاعت منظومة القوة أو المنظومة السيادية أن تسيطر على المنظومة الثانية بسياسة العصا والجزرة.

أما المنظومة الثالثة، وهي منظومة الثروة فهي منظومة شبه معطوبة أساسا، ولا جذور لها إلا قليلا تستطيع المنظومة التي تمتلك معلومات وقوة أن تسيطر عليها بسهولة..

وقد حدث وسحبت أغلب المشروعات الكبرى منها وذهبت إلى منظومة القوة، وتم استخدام مؤسساتها في خدمة مشروعات المنظومة الأولى..

هدية لتحيا مصر

ويؤكد ذلك ما صرح به المسؤول عن العاصمة الإدارية الجديدة من أن شركات بناء مسجد الفتاح العليم وكنيسة المهد فيها لم تحصل إلا على ٢٥٪ من مستحقاتها في تكاليف البناء أما الباقي فيتم حين ميسرة، أو كما قال في انتظار تبرعات المتبرعين ولا مانع أن يكون هؤلاء المتبرعون هم أنفسهم أصحاب شركات البناء هدية منهم لتحيا مصر.

لقد سيطرت المنظومة السيادية التي أشار إليها بطل فيلم فبراير الأسود علي المنظومتين الأخريين، فصار المجتمع الجديد بمنظومة واحدة في غياب كامل لقوى اجتماعية وعلمية ونقابية تقف مع مصالح المجتمع والشعب..

فقد تلاشت أدوار معظم النقابات المهنية والحركات الاجتماعية: كنقابات المحامين والصحفيين والأطباء والمهندسين ونادي القضاة وحركات كفاية و٩ مارس..

وتلاشت أدوار الأحزاب السياسية التي حُوصرت مقراتها، وقُبض على الكثير من أعضائها بقانون التظاهر الذي منع المظاهرات من الأصل، واعتقلت قيادات كثيره من تلك الحركات والأحزاب مثل السفير معصوم مرزوق، والدكتور يحيي القزاز، والدكتور رائد سلامة، والدكتور يحيي عبد الهادي حسين، وشباب حزب تيار الكرامة والمصري الديمقراطي والتحالف الشعبي ولا يزال القوس مفتوحا لآخرين.

وفي ظل هذا الواقع من سيطرة منظومة واحدة أو نصف المنظومة الأولى -حسب وصف الفيلم “علي” أستاذ الجامعة وأسرته المحبة والساعية للعلم والبحث العلمي- فعلى من يتشابهون مع أبطال الفيلم أن يبحثوا عن زوج لابنتهم بين رجال نصف المنظومة الأولى..

رغم أن أفرادها أصلا لا يحبون العلم ولا العلماء، ولا يؤمنون بدراسات الجدوى، ويخفون المشاريع خوفا من حسد أهل الشر، وكل هذا يُفقد المجتمع توازنه فلا يمكن لمجتمع أن يستمر هكذا يمشي على قدم واحدة..

فالمجتمعات تقوم على قوى متعددة ومتوازنة تلك التي تحمي المجتمع والدولة، بدلا من أن يسعى العلماء وكل باحث ومفكر في مصر للحصول على جنسية أخرى تحترم العلم والعلماء والمفكرين..

وربما يكون لقوى يناير والثورة وأبنائها والطليعة المصرية رأي آخر بالوحدة والاتحاد، وتجنب خطايا الماضي في محاولة لإيجاد دولة ونظام يعمل لصالح البلد، فيقدس العلم والعلماء والمفكرين والمثقفين، حسب مقولة بطل فيلم فبراير الأسود.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه