عن حقائب المسافرين .. والوزراء في تونس

عبد الرزاق قيراط*

“لقد سافرت قرابة الألف مرّة في حياتي ونزلت بحوالي مائة مطار ولم أتعرّض في حياتى للسرقة”.، هكذا قال “عامر الساطع”، السائح النمساويّ من أصل سوريّ مستغربا ما حدث له في مطار تونس قرطاج الدوليّ بعد أن سرقت أمتعته. فذكّرني بقصيدة الشاعر الدمشقيّ نزار قباني التي مطلعها: ” يا تونس الخضراء جئتك عاشقا وعلى جبيني وردة وكتابُ”.. وتخيّلت ما سيقوله لو تعرّض لذلك الفعل الشنيع، فالمؤكّد أنه سيضيف “ومعي حقيبة بها ثيابُ”، خاصّة أنه يتساءل في موقع متقدّم:” أأنا مغنّي القصر يا قرطاجة، كيف الحضور وما عليّ ثيابُ؟!..
كان “الساطع” غاضباً في حديثه عن تلك الحادثة التي أفسدت رحلة سياحيّة هدفها ذلك السؤال الجميل في قول نزار: هل في العيون التونسية شاطئ، ترتاح فوق رماله الأعصابُ؟
لكنّ السؤال الذي سطع أمامي يتعلّق بموضوع الحقائب، وقد استوت عندي أنواعها. فالفوضى التي تضرب حقائب المسافرين بمطارنا الدوليّ على علاقة وطيدة بما حدث في توزيع حقائب الوزارء، إذْ لا فرق بين ذلك العامل (البسيط) الذي يعتدي على الأمانة فيخلع الأقفال، ويعبث  بما حوته أمتعة المسافرين لسرقة أثمن ما فيها، وبين الوزير (المعقّد) الذي يعبث هو أيضا بمصلحة بلاده ويسيء إلى منصب رفيع في الدولة ويثبت في نهاية الأمر أنه لا يستحقّ تلك المهمّة وأن الحقيبة التي أسندت له قد سلبت بما فيها من أمانات ومصالح من شخص آخر كان يستحقّها عن جدارة… هكذا هي تونس هذه الأيام، تسند الوظائف الصغيرة لمن لا يستحقّها، وتمنح المناصب العليا لمن لا يرعاها حقّ رعايتها…
خرجت بتلك النتيجة بعد الاستماع إلى ذلك السائح في أخبار إذاعيّة متفرّقة وأنا متجه إلى المطار لاستقبال ضيف قادم من لندن.. وقد حاولت قبل الخروج أن أتثبّت من موعد وصول الطائرة حتّى لا أقضي وقتا طويلا في انتظارها، إذ عودتنا الخطوط التونسيّة في السنوات الأخيرة على تردّي جميع  خدماتها بداية من مواعيدها المضطربة، إلى غياب الطعام خلال الرحلة، فضلا عن سرقة الأمتعة كما تقدّم ذكره… ولأننا نعيش في عصر التكنولوجيا والخدمات السريعة، دخلت على موقع المطار للاطلاع على مواعيد الوصول، فلم أعثر على شيء…صفحة الاستقبال البائسة بها روابط لا تعمل، ورقم الهاتف الموجود في أسفلها خارج الخدمة. والمحتوى فقير على نحو يثير الشك والارتياب… فالمؤكّد أنّ صفقة تعلّقت بإنشاء ذلك الموقع العقيم، وأنّ مبلغا كبيرا ذهب إلى مجموعة منحرفين لا محترفين.. ولو أسندت تلك المهمّة لطالب في مدرسة ثانويّة لقام بعمل على قدر كبير من الحرفيّة في وقت قياسيّ. ولكنّ أمثال هؤلاء الشباب من الموهوبين في  صناعة الذكاء المعلوماتيّ يُقبض عليهم بتهم خطيرة كما حدث مؤخّرا مع مجموعة “الفلاقة” التي تضمّ طلاّبا قاموا باختراق مواقع إسرائيليّة معادية… 
تحاصرك الأسئلة وأنت تستعرض ما آلت إليه أوضاعنا بسبب تقصير الوزراء وكبار الموظفين في القيام بواجباتهم.  فلماذا يستمرّ هذا العبث في بلد سياحيّ مثل تونس؟ ومتى ستقضي السلطات عن كلّ التجاوزات المسيئة لصورة البلاد حتّى لا تتكرّر مثنى وثلاث ورباع…؟
في حقائب الوزراء الذين جاءت بهم حكومة النداء أكثر من جواب، إذ يبدو من حالة التسيّب التي تتفاقم يوما بعد يوم أنّ لكلّ وزير منهم شأن يغنيه، وكأنّ غايته القصوى أن يصبح وزيرا وكفى.. فالسكوت عن المفاسد التي ترتكب في جلّ القطاعات لا يعكس عجزا عن مقاومتها بقدر ما يدلّ بقوّة على غياب الإرادة السياسيّة لمحاربتها. وفي المقابل تكرّس إرادة الاستمرار في التطبيع مع المفسدين، إما بالسكوت والتستّر على جرائمهم، أو بمشاركتهم والاستفادة من خبرتهم  في تهريب المنافع إلى جيوبهم بدل استقرارها في خزينة الدولة.. ولا ينقصنا الدليل في هذا الباب، فقد أطلق النائب سالم لبيض عن حركة الشعب صيحة فزع قبل أيام على خلفيّة القرار الذي اتخذه وزير التربية الجديد بإعادة  إدماج عدد من الموظفين الذين أطردوا بعد تورّطهم في قضايا فساد خطيرة. وقد تولّى سالم لبيض طردهم بنفسه حين شغل ذلك المنصب خلال حكومة الترويكا الثانية…
وعلى ضوء هذه السياسات الغريبة، تتّضح معالم برنامج الحكومة بقيامه على مبدأ “العناد”،  فوزراء حكومة النداء يعاندون وزراء حكومة الترويكا فينسخون أحكامهم وأوامرهم بما يخالفها، حتّى وإنّ تعارضت مع مصلحة الوطن عملا بمقاصد الفعل “عاند”، أي “خالف الحقَّ وهو عارف به لإشباع نزوات شخصيّة”.. ويدخل في هذا الباب ما يفعله وزير الخارجيّة الطيّب البكوش حيث أمر بإعادة العلاقات مع سوريا بعد أن قطعتها الترويكا احتجاجا على جرائم بشار الأسد. وهو بذلك النقض، يفضح رؤيته السفسطائيّة في مجال السياسة الخارجيّة، وينخرط في “مذهب العنديّة”  الذين يعتقدون أنّ الحقّ حقٌّ بالقياس إليهم وباطل بالقياس إلى خصومهم. لكنّ الرئيس قايد السبسي نغى عزمه على إعادة تلك العلاقات قائلا في حوار بثته فرانس 24:” السياسة الخارجيّة من أنظار رئيس الجمهوريّة والوزارة تطبّق هذه السياسة.” والموقف بهذا التذبذب يعكس صراع أجنحة مستمرّ في حزب نداء تونس، ويهددّ في حالة تواصله مصالح الوطن والمواطنين. وهي مهدّدة فعلا، بسبب التصريحات العشوائيّة التي صدرت عن البكوش فيما يخصّ ملفّ الإرهاب، فقد اتهم تركيا  بتسهيل دخول الإرهابيين إلى  سوريا والعراق، وحمّلها المسؤوليّة عن الهجمات التي وقعت في تونس بربط فيه من التعسّف وانعدام الحس الدبلوماسيّ ما يبعث على الدهشة والأسف، حيث يقول:” طلبت من سفير تونس بتركيا أن يلفت انتباه السلطة التركية إلى أنّنا لا نريد من دولة إسلامية أن تكون مساعدة على الإرهاب في تونس بتسهيل تنقل إرهابيين نحو العراق وسوريا تحت مسمّى الجهاد”.
هكذا تكتمل الصورة لتعبّر بوضوح عن خلل كبير في إسناد الحقائب الوزاريّة، ما أثار انتقادات واسعة في مداخلات نوّاب الشعب أثناء جلسة حوارهم مع أعضاء الحكومة، فنبّه الصحبي عتيق من حركة النهضة إلى خطورة ما يقوله وزير خارجيّتنا مؤكّدا أنّ “هناك ارتباك في الآداء ونحن نطمع لسياسة خارجية تنمّى الصداقات وتجلب الاستثمارات”…
 والارتباك في حقيقة الأمر يشمل أيضا شأننا الداخليّ بعد أن أعلنت حكومتنا “الحرب على الإرهاب”، لكنّها تسكت عن الفساد والمفسدين، وتفضّل التطبيع معهم بما يثير أسئلة تشاؤميّة عبّر عنها الشاعر المحبّ لتونس نزار قباني حين قال:” يا تونس الخضراء كأسي علقم، أعلى الهزيمة تشربُ الأنخابُ؟

 _______________

*كاتب تونسي

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه