عن الجثث التي وُجدت في مراكز رعاية المسنين في إسبانيا

 

      لم تكد تصحو الضمائر والعيون من صدمة مشهد شاحنات الجيش الإيطالي وهي تحمل بالجملة توابيت ضحايا فيروس كورونا من قرية بيرغامو إلى خارجها، حتى خرجت علينا الصحافة الإسبانية بخبر أشدّ هولا وألمًا والمتمثّل في اكتشاف وحدة الجيش للطوارئ جثث لعجائز مقيمين في مراكز لرعاية المسنين، في أسرّتهم وبجانب من تبقّى من الأحياء، في مشهد يُوضّح خروج الأمور عن سيطرة أصحاب هذه المراكز، أو الإهمال المقصود. أغلب الرأي العالمي ذهب إلى الاحتمال الثاني، لكن الحقيقة تذهب إلى أبعد من هذا.

    تفاصيل الخبر تعود إلى تصريح لوزيرة الدفاع مارغاريتا روبليس، بداية هذا الأسبوع لقناة إسبانية مفاده أن وحدة الجيش للطوارئ المُكلّفة بتعقيم جميع المؤسسات الصحية ومراكز رعاية المسنين ومراكز إيواء المشردين، اكتشفت مستوى من الإهمال لم يخطر على البال، إذ عثرت في عديد المراكز على أكثر من مائة جثة لعجائز في أسرّتهم، فيهم من تُرك فيها أكثر من يوم بجانب الأحياء، ناهيك عن مئات المسنّين المحرومين من الخدمات الأساسية. وزيرة الدفاع الإسبانية لم تُشر إلى أسماء المراكز ولا عناوينها قصدًا، لكنها قالت إن الأمر رُفع مباشرة إلى الادّعاء العام وتوعّدت بأنه سيتم إنزال أقسى العقوبات على المسؤولين عن هذه الجرائم الفظيعة.

الإرباك:

      وبرغم أن الخبر مثّل فاجعة للرأي العام الإسباني والعالمي، إلا أن هناك موجة من الاتهامات خصوصا من طرف العرب، للمجتمع الإسباني بأنه مجتمع غير بار بكبار السن، وأن أزمة كورونا مثّلت مناسبة للتخلص من أعباء العناية بهم. قد يحظى الأمر ببعض التصديق لو وقفنا عند حدّ الخبر، لكن المشكل يكمن في أن الإعلام الإسباني انشغل عن نشر تفاصيل هذه الفاجعة، بما يحصده فيروس كورونا من أرواح تخطّت حصيلته الخمسة والستين ألفا وأودت بحياة ما يقارب الخمسة آلاف. القصة في الحقيقة تعود إلى معطيات خاصة بالمرحلة المُربكة والحساسة التي تعيشها إسبانيا ومعطيات عامة عن قطاع رعاية المسنين.

       فأما المعطيات الخاصة، فتتعلق بحالة الإرباك التي وقعت فيها هذه المراكز للتنسيق مع مراكز تنظيم الجنائز (المشرحة) لإتمام دفن أو حرق الجثث؛ إذ إن مراكز رعاية المسنين الخاصة هي في الأخير مشاريع تجارية تستفيد ماديا من كل الخدمات التي يمكن أن تنوب فيها عن عائلات المقيمين فيها، ناهيك عن أن بعض زبائنها يقتنون باقة الخدمات (حتى الموت) كاملة منذ البداية.

المشكل الذي حصل خلال أزمة الكورونا المستمر هو حالة الازدحام غير المسبوقة على المقابر وعلى المشارح واستحالة توصّل مراكز الرعاية للحصول على مواعيد مع مراكز تنظيم الجنائز لرفع الجثة باعتبار الأوامر القانونية الصارمة للتعامل مع جثث مصابي الكورونا. وأقول مراكز تنظيم الجنائز لأنه قطاع حيّ في الغرب، بل إجباري، ينقسم للخاص والعام، ويتكفل بخدمات عديدة تشمل حتى تجميل الجثة ودفنها وكراء صالة التأبين وتحضير موكب الدفن والزهور…

خلال أيام الكورونا، منعت مشرحة مدريد العامة تقديم خدمات دفن مصابي الكورونا واكتفت بتقديم خدمات دفن الموتى العاديين الذين يبلغون حوالي 150 يوميا. لكن المشرحات الخاصة، من جهتها كادت توصد الباب في وجه الحرفاء باعتبار أن مهمة دفن مصابي الكورونا تخضع لشروط متشددة من قبل وزارة الصحة وأيضا تمثل خطرا على موظفيها، لذلك تتأخر في قبول طلبات مراكز رعاية المسنين وغيرهم؛ إذ تذكر جريدة الباييس في مقال صادر يوم الثلاثاء الماضي أنه وأمام ارتفاع ضحايا فيروس كورونا (محافظة مدريد إلى اليوم 3200 وفاة)، لجأت الشركة البلدية لخدمات الجنائز بمدريد، أمام حالة الشلل العام، لانتداب عمّال جدد وفتح الأفران للعمل 24 ساعة يومية وقبول التوابيت من الشركات الأخرى إلا في حالة ختمها وإتمام كل الشروط الصحية والقانونية. لكن رغم هذا، تبقى الاستجابة لكل طلبات الدفن في ظرف يوم أو يومين صعبة أو مستحيلة.

خدمة 5 نجوم:

      وأما المعطيات العامة فتتمثّل في أن قطاع رعاية المسنين (خصوصا الخاص) هو قطاع يخفي شوائب واحتيالا كبيرين، مع أنه يبدو برّاقا للزائرين، مثله مثل قطاع السياحة مثلا؛ إذ ينحصر التمتع بخدماته في فئة قادرة على توفير اشتراك شهري يتراوح من 800 يورو (قطاع عام بخدمات الحد الأدنى) إلى حدود 5000 يورو أو أحيانا أكثر، أي ينعم فيه المُسن بخدمات خمسة نجوم تخضع لرقابة قانونية وصحية صارمة.

وقد تتدخل الدولة لتدعم اشتراكات فئات تعجز عن توفير المبلغ، لكن بشروط كثيرة. وتتعلق النقطة الثانية في هذه المعطيات العامة بموظفي هذا القطاع، حيث يهنأ موظفو مراكز القطاع العام بمستوى اطمئنان نسبي في ما يخص عقود توظيفهم، لكن أمثالهم في القطاع الخاص فلا يهنؤون بالاطمئنان مهما علا شأن المركز، إذ إن الاستغناء عن أحد الموظفين فيها يبقى رهين مزاج أو قرار المسؤولين فيه، ولن يُكلّف الأمر شيئا، فتلفيق الأخطاء لمن أرادوا طرده من أسهل ما يكون.

وبالتأكيد قد تُكلّف هذه السياسات متابعات قضائية في قطاعات مهنية أخرى، باعتبارها تدخل في باب المظالم، لكن هذا غير مطروح في قطاع لا يتضمن نقابة قوية خاصة به. ولا غرابة في هذا لأن غالبية الفئة التي تقبل بأوضاع استغلال فظيعة في عدد ساعات العمل ورواتب منخفضة وجهد مضني لا تفقه حتى معنى الحق النقابي، لذلك يحرص أصحاب هذه المراكز على انتدابها، والتي يمثل المهاجرون فيها أكثر من الثلثين. ومعلوم أيضا أنه قطاع عبور للعمالة، إذ لا يطيل فيه العامل المقام. لهذه الأسباب لم يستغرب الرأي العام حصول الكارثة عندما اكتشفت وحدة الجيش للطوارئ أن أغلب الموظفين فروا بجلودهم منذ بداية تفشي الوباء وتركوا مسؤوليهم وحيدين في مواجهة الأزمة. وقد أثبت هؤلاء أنهم أعجز حتى من أن يُؤمّنوا حياة المسنّين أو يصونوا جثثهم، لذلك استماتوا في منع أهاليهم من زيارتهم إلى حين إنهاء إجراءات الخدمات الجنائزية.

جريمة ولكن:

     هي وضعية استثنائية في الحقيقة ويبدو أنها ستطرح تعقيدات أكثر على السلطات الإسبانية، فمستوى الإصابات في ارتفاع وحصيلة الضحايا تزيد المزاج العام إحباطا ورُعبا. لكن في الحقيقة، من الإجحاف أن نتهم المجتمع الإسباني أو أي مجتمع غربي بأنه مجتمع غير إنساني، ضحّى بمُسنّيه بدم بارد. هي جريمة لا تغتفر بالفعل لكن المسؤول عنها هنا هي مراكز الرعاية غير المهنية وأيضا البيروقراطية المتغلغلة في الإدارة الإسبانية، أما العجائز فلن يهونوا على أي مجتمع مهما غالى في المادّية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه