“عندي حلم”

“عندي حلم”، عبارة كرّرها مرّات مارتن لوثر كنغ في نهاية خطابه التاريخيّ الّذي ألقاه عند نصب لنكولن التذكاريّ 28 أغسطس 1963 أثناء مسيرة واشنطن للحريّة، كنغ أحد أكثر الشخصيّات تأثيراً في تاريخ أمريكا في القرن العشرين، ناضل في سبيل الحريّات المدنيّة، وإلغاء التمييز، وتحقيق المُساواة بين البيض والسّود، هذا الشابّ الأسود ” 39 عاماً” دفع حياته ثمناً لكفاحه المدنيّ، حيث اغتِيل في 4 أبريل 1968، وبعد أربعة أشهر ستحل الذكرى الخمسين لرحيله، ولو قُدّر له أن يعيش لرأى حلمه يتحقق بأكثر مما كان يتخيله بوصول أوّل أسود، هو باراك أوباما، لرئاسة أمريكا بأصوات البيض قبل السّود، وأمضى في البيت الأبيض فترتين رئاسيتين “2009 – 20017”.

الحلم الجمعي للسود صار واقعاً، ولا يقلّل من نتائجه وقوع أحداث عنصريّة مُتناثرة هنا وهناك ضدّ بعضهم، أو بروز تيّارات متطرفة ونازيّة لا تزال تنحاز للعنصر الأبيض مع وصول ترمب للرئاسة، فلا مُجتمعَ إنسانيّاً على وجه الأرض مُبرّأً تماماً من العنصرية حتى لو كان متآلفاً ونسيجاً واحداً.

الثورة اللوثرية الإصلاحية

ويتصادف أنّه في مطلع نوفمبر الجاري يكون قد مرّ 500 عام على دّعوة دينية إصلاحيّة فجّرها وقادها الشخص الذي يحمل مارتن لوثر الأمريكي اسمه، وهو القسّ مارتن لوثر، وقد تركت إصلاحاته أثراً هائلاً في أوروبا والعالم المسيحيّ، فقد نتج عن ثورته على الأفكار المستبدة والظلامية التي كانت تفرضها الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة على المسيحيين في نشوء حركة تحرّير لاهوتي، وإطلاق مسار التّجديد الدينيّ، والتّنوير الفكريّ، والتّحديث المدنيّ، وبروز البروتستانتيّة الّتي صارت مذهباً انتشر في العديد من البلدان، وعلى رأسها ألمانيا الّتي وُلد ونشأ لوثر في واحدة من مُقاطعاتها.

أفكار عظيمة وأشخاص عظام

ما بين مرور خمسين عاماً على رحيل مارتن لوثر الأمريكيّ، ومرور 500 عام على أقوى ضربة وجهها مارتن لوثر الألماني في حائط الانغلاق والتسلّط الدينيّ الذي فرض طوق حديديّ مُصطنع للتحكّم في حياة الإنسان وفي آخرته أيضاً عبر صكوك الغفران الانتهازية الكاذبة فإن الغرب تغير جذرياً، ولايزال يتطور على الدوام.

الأفكار العظيمة بحاجة دائماً إلى أشخاص عظام يدفعون من حياتهم وحرياتهم ثمناً لها، أو تكون حياتهم نفسها هي الثمن، مارتن لوثر زعيم حركة الحريّات المدنيّة في العصر الحديث اغتِيل، ومارتن لوثر زعيم حركة الحريّات الدينية في العصور الوسطى حُكم عليه بالكفر، وأُهِدر دمه لولا أنه وجد الحماية من حاكم إحدى المقاطعات، والدعم من الأنصار الذين اقتنعوا بدعوته، والمساندة من الفقراء.

التاريخ الإنسانيّ يزخر بالشخصيّات التي تركت علامات مهمّة، وحقّقت إصلاحات وإنجازات كثيرة لصالح بلدانها ومُواطنيها والعالم في مختلف مجالات المعارف العلمية والإنسانية، وبفضل جهودهم وجهادهم ومعاناتهم نعيش اليوم في ظلّ حضارة رائعة.

 

حلم التغيير

“عندي حلم”، كان أيضاً شعار المُواطن العربيّ في الربيع العربيّ ضد حالة استبداد عامة متجذرة تعادي التغيير، الحلم بالإصلاح الشامل والجذري كان جوهر الشّعارات في البلدان التي هبّت لانتزاع حرياّتها وإرادتها، وهو أيضاً الحلم الكامن لدى المواطن في البلدان التي لم تشهد ثورات ولا انتفاضات، إنه حلم عالم عربي وإسلامي لا يزال متخلفاً بمسافات عن ركب التحديث والتنوير والتقدم، هذا العالم بحاجة لتغيير الواقع المزري الذي يكبله بسبب ديكتاتورية السياسة والحكم، وجمود العقل والفكر، ووضع تصورات دينية وظيفية تجافي أصل وجوهر الدين والحرية واحدة من قيمه الأساسية، التغيير إلى واقع أفضل هو حلم كبير، لكنه وإن تحطّم وصارت الأوضاع أسوأ فلأنها دورة في حركة التاريخ التي لا تتوقف، ولأنه لم يكن هناك قادة عظام يقبلون التضحية ويرتفعون إلى قامة هذا الحلم في الحريّات والحقوق مثل لوثر الأمريكي، وفي التّعامل الصحيح مع الدّين والتّجديد فيه وتحريره من قبضة السلطويات واختطاف التنظيمات مثل لوثر الألماني.

مطامع السلطة

بعد الرّبيع برزت السّياسة كما لم تبرز من قبلُ، صارت بركاناً هادراً لكنها لم تُوظّف في الاتجاه التوافقيّ التحاوري الصحيح فأخذ البركان يقذف حمماً ودماراً وأزمات وصراعاتٍ بدل الأفكار والمبادرات والحلول وتشابك الأيادي، تفشّت مطامع السّلطة والسيادة من جانب الشخصيات وللتنظيمات والأحزاب، فخسر الجميع، كما برز الدين وكأنه كان غائباً عن المجتمع، مؤسّساته الرسمية بدأت تخرج من قمقمها باحثة عن دور أوسع، وتنظيماته الحركية أحدثت ضجيجاً هائلاً بعد سنوات طويلة من الإسكات والاستبعاد، لكنهم أضروا أكثر مما أفادوا، أضروا الدين وأنفسهم بأفكارهم المشوشة، ورؤيتهم السياسية شديدة التواضع، وتداخل الاثنان، ولم يعد هناك فاصل ولو بقدر شعرة رفيعة بين السياسي الملوث، وبين الديني المقدّس، باتت الساسة أشد قذارة، تهتكت أخلاقها، وسقطت قيمها، ونُزع شرفها واحترامها، وبات الدين حديثاً يلوكه الجاهلون بجوهره، والمتمسكون بقشوره فقط، والمؤسّسات الدينية الرسمية سقطت في مستنقع التسييس والتجيير والتحزيب، ولم تختلف كثيراً عن الحركات التي نصّبت نفسها قيّماً على الدين، ووظفته لتحقيق مكاسب في السياسة والحكم. مؤسسة الأزهر في مصر فرطت في فرصة للاستقلالية الكاملة، وانخرطت في انحيازات سياسية، والمؤسسة الدينية في السعودية تتابع فقط انقلاباً غير مسبوق من جانب السلطة في قضايا دينية كانت من المحرمات بالأمس دون أن تنطق لتزيل الحرج البالغ عن نفسها، بل قد تبرر ما يجري مما يفقدها المصداقية، والمؤسسة الدينية في سوريا انحازت منذ اليوم الأول لجانب النظام، ولا ترى حتى اليوم في نهر الدماء المسفوك ما يستوجب المراجعة والإدانة.

غياب القادة

من كان يرى أن عدم بروز قادة للثورات ميزة، ظهر فيما بعد أن ذلك كان من أشدّ نواقصها، فالقائد السياسيّ مارتن لوثر كان رمزاً للملايين من المشتاقين للحريات والحقوق المدنية المتساوية، والقائد الديني مارتن لوثر كان رمزاً لرفاقه من رجال الدين الساعين للخلاص من سلطة البابا الاحتكارية للدين وتفسيراته وحده للكتاب المقدس وقراراته وأحكامه بشأن المؤمنين بالمسيحية، كما كان أملاً للملايين من المسحوقين الذين تبتزهم الكنيسة بصكوك الغفران، وهي التجارة الأكثر عاراً في تاريخ الكنيسة خلال القرون الوسطى.

وجود القيادة في السياسة، وفي الدين، وفي كل مجال يجعل الطريق واضحاً، حيث تكون هي الرمز الذي يلتف حولها الجميع، وتتلاقى عندها الأفكار، وتنطلق منها المبادرات، أحد أسباب نجاح ثورتي 1919 و1952 في مصر وجود سعد زغلول، وعبد الناصر قائدين لرفاقهما.

إصلاح سياسي وديني

حلم الأمة في الحريات بحاجة إلى قادة مُخلصين يجعلون أنفسهم نذراً وطنيّاً للنضال في سبيل تحقيقه، لا أن يفرّوا للخارج، ولا أن يتدثّروا في فرشهم، ولا أن ينافقوا لحماية أنفسهم ومصالحهم، نضالاً سياسياً سلمياً، وليس بالضرورة أن تتحقق نتائجه فوراً، ولا في أمد قريب، إنما يكفي بناء جيل بعد جيل من المؤمنين بالفكرة حتى يتغير المجتمع من قاعدته إلى رأسه، وهنا سيكون الإصلاح ممكناً، ولن يُواجه بمقاومة عنيفة من القوى التقليدية التي ترفضه وتخشى على نفوذها ومصالحها لأن المجتمع سيكون مهيئاً مستعداً مدافعاً عن خلاصه وإنقاذه، كما ستكون هذه القوى جزءاً من التركيبة الجديدة في إطار قواعد لعبة أخرى.

ومع الإصلاح السياسي هناك حاجة إلى الإصلاح الدينيّ ليس وَفْق توجيهات رسمية لخدمة الاستبداد فيُصنع له ديناً على قياسه هدفه إخضاع رقاب الناس بالتفسيرات الموجّهة، إنما إصلاح يواكب روح العصر والمستجدّات والتعايش المُشترك والتّسامح وتقديس قيم الحريات وحقوق الإنسان، وأرفع تلك الحقوق، هو الحق في رسم الحاضر والمستقبل، واختيار من يحكم ويقود.

الإسلام الحركي.. مراجعة جذرية

الإسلام الحركي عليه أن يُعيد النظر في أدبياته ومنهجيته جِذريّاً ليكون مدنيّاً وطنيّاً متعايشاً مع الآخرين بسلام، وألا يكون الدين وسيلته الوحيدة لاستمالة المشاعر، بينما جراب السياسة والفكر بلا رصيد.

التغيير أو الإصلاح والحقوق والحريات والديمقراطية والعدالة والتنوير والنهوض في انتظار لوثر السياسيّ، ولوثر الدينيّ، من بني جلدتنا، ومن ديننا، لبناء منظومة حياة جديدة لا تخاصم الثوابت، ولا تنسف القواعد، ولا تكون مجرد تقليد للغرب.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه