عندما يصبح الرأي العام شريكا

العراق مثلا، أسس المتلاعبون بالوعي بعد الاحتلال فكرة أن (البلد) لا تستقيم إدارته إلا بالحكم الطائفي

 

في مراحل فرض المسارات السياسية على اختلاف أنواعها وغيرها من المسارات. يفرض الرأي العام نفسه شريكا. أو عندما يتطلب الأمر غطاء شعبيا مفروضا، يتم الدفع بالرأي العام لأن يكون شريكا.. موضوع يدرك أهميته وخطورته القائمون على إدارة الشعوب المالكون لأدوات وآلية تسخير الرأي العام.

فإذا قبلنا بمفهوم الرأي العام على أنه: حكم عقلي إزاء مسألة من المسائل التي يثار حولها الجدل المجتمعي. ذلك يعني أن الرأي العام يفترض أن يدور مع العقل وجوداً وعدماً، فهو صوت الأمة الذي ينبني عليه الإجماع في الأمور الشرعية والعقلية كما يراه الأصوليون. وفي مفهوم الديمقراطيات والنظم الحديثة يفترض أن يكون الرأي العام حاكما في اتخاذ القرارات وتقرير مشروعية الأحكام استنادا لنتائج الرأي العام والمناقشات المجتمعية.

وفق ذلك يصبح من الصعب تفسير عملية تكوين الرأي العام بعيدا عن المعلومة الصحيحة، التي يجب أن يحصل عليها الفرد من بيئته الاجتماعية المتمثلة في تاريخه وقيمه وثقافته وعقائده وأفكاره المحيطة التي تشكل سلوكه وردود فعله المتوقعة اتجاه الأحداث المختلفة.

بين المفترض وحقيقة التعامل مع مفهوم الرأي العام

تعتمد أنظمة الاستبداد العربي عادة على صناعة الرأي العام وتوجيهه باتجاه مقاصد سياساتها، عن طريق حجم الدعاية والإعلام على قاعدة شرعنة العلاقة بين الرأي العام وصانعيه. باستهداف العقل مناط الرأي والإرادة. وتكون بداية توظيف الرأي العام دائما مع الفكرة عن طريق دور الجماعات التي تضع البذرة. مثل قولهم (الشعب العربي لا يحكمه إلا العسكر) أو قولهم (الحرية لا تنسجم مع العقل العربي). فكرتان معناهما الحقيقي لا ينسجم إلا إذا كان موجها لطبقة من العبيد. والمهارة تأتي لاحقا في اسلوب الاقناع والحشد لهذه الفكرة كي تنمو فتغطي المساحة الأوسع للمجتمع، يأتي بعدها ظهور الزعامة والقيادة فتتبعها المرحلة التي تتسع فيها دائرة النقاش ويشترك فيها عدد كبير من الناس لا يعرف بعضهم بعضا لكنهم أصبحوا ينتمون إلى الفكرة بل قاموا بتبنيها.

شواهد تسويق المعلومة وإدارة العقول تتجلى في مظاهر وحوادث كثيرة.. هناك في بلاد التنوع الحضاري – العراق مثلا، أسس المتلاعبون بالوعي بعد الاحتلال فكرة أن (البلد لا تستقيم إدارته إلا بالحكم الطائفي) ولحقتها في الدورات الانتخابية اللاحقة فكرة (الترجيح بين قوة المترشحين باعتبار الداعم الإيراني أو الأمريكي). الغريب وبعد مناقشات واسعة ومشاركات مجتمعية عامة جعل عدداً كبيراً من الناس يتقبلون هذه الأفكار ويتبنونها أيضا، لينتهي الأمر بالجماعات السلبية في المجتمع إلى السير في ركب التائهين والتأييد بالتصفيق أو التظاهر  وغير ذلك، فيما المعارضون لهذه الأفكار يقعون في حبائل الحرج في مخالفة الأغلبية فيميلون إلى الصمت مما يسهم في عزل الصوت المعارض. وإلى أن يستفيق المنقادون سلبيا والقوى المعارضة، يكون الرأي العام قد تكون. وهذا ما يفسر اليوم خواء ونشاز أصوات الطبقة التي تدعي الثقافة والنخبوية في رفض الانتخابات المقبلة على الأسس الطائفية لأن الطبقة نفسها قبلت أن تكون يوما ما جسرا للطائفية وارتضت أن تسير خلف كل ناعق. وهي نفسها التي أسهمت في تكوين الرأي العام الفاسد.

هناك أيضا مراحل أكثر تعقيدا وخطورة متمثلة بتضليل الرأي العام من خلال التأثير على عقلية المتلقي وجعلها متقبلة ومهيأة لحالة الوهم والتزوير والإرباك المتلائم مع الأهداف التي خططت لها الجهات المسيطرة والمالكة والمتنفذة في إدارة الرأي العام ما قد يصل إلى حد الجريمة من خلال تبرير جرائم القتل الجماعي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وربما تصويرها على أنها بطولات يستحق أصحابها الأنواط والنياشين .

بهذا الوصف لا يخرج تضليل الرأي العام عن إطار الجريمة، بالنظر إلى ركنها المادي الذي يكتمل بثلاثية الفعل المتضمن الدفع بالإرادة إلى الضلال وعدم الاهتداء إلى الاختيار السليم. إضافة إلى السبب والنتيجة .

تضليل الرأي العام أمر خطير يتحدث به الكثيرون، لكن القليل من يدرك أثرة ومراميه ونتائجه. وحدهم المتلاعبون بالعقول قادرون على إدارة هذه اللعبة.

إنها لعبة الشياطين

يرى هربرت أ. شيللر في كتابه المتلاعبون بالعقول، ” أنه عند وقوع أزمة فعلية أو حتى كاذبة ينشأ جو هستيري محموم بعيد عن المعقولية. يؤدي إلى النفخ في أهمية الموضوع، ومن ثم تكون الخطوة التالية إفراغه من أي أهمية. ونتيجة لذلك تضعف القدرة على التمييز بين الدرجات المتباينة للأهمية

الرأي العام مع اختلاف أنواعه هو المستهدف الطبيعي، فلا فرق بين رأي عام كامن لأسباب سياسية ينتظر الانفجار ليتحول إلى ثورة شاملة، وبين رأي عام ظاهر تقوده أجهزة الدول مستغلة الإعلام والجماعات السياسية الانتهازية.

المختلف هو فعل التضليل من حيث آلياته وأهدافه. ذلك يعني أن صناعة الرأي العام تختلف باختلاف عقائد وأفكار الأمم والدول، وهذا الاختلاف والتمايز محكوم بالقدرة على إنتاج فكرة التضليل واختبارها وتنفيذها.

ذلك التنفيذ الذي يجسد حالة الارتباط بمنظومة تزييف الوعي وتضليل الرأي العام، من خلال تفعيل وتجسيد دور (حراس البوابة) التي أشار إليها العالم (كرت لوين) في أن هناك في كل حلقة ضمن السلسلة فردا ما يتمتع بالحق في أن يقرر ما إذا كانت الرسالة التي تلقاها، سينقلها إلى الجمهور أو لا ينقلها، وما إذا كانت تلك الرسالة ستصل إلى الحلقة التالية بالشكل نفسه الذي جاءت به ، أم سيدخل عليها تغييرات جوهرية توحي بعكس الواقع ،الأمر الذي يعتبر شكلا من أشكال تضليل الرأي العام بجميع وسائله المتمثلة بالانتقائية المتحيزة والتلاعب بالمعلومات باستخدام مفردات معينة تؤدي إلى إصدار أحكام بالإدانة على المواقف والأشخاص والجماعات . وإرغام الشعوب على القبول بالنفايات المعلوماتية لتشتيت الانتباه عن القضايا الأصلية. وبذلك يتم إبعاد الرأي العام عن إنتاج حكم عقلي لحسم قضايا الجدل المتعلق بمصير الأمة.

إذن الرأي العام لا يأتي من فراغ. وبالمقابل إذا أحسنت قوى المعارضة صنع الرأي العام والحشد الصحيح له، فان ذلك سيرقى لمرتبة المعادل الموضوعي لنجاح أي فكرة وإخراجها من محيطها الضيق إلى ساحات الرأي العام التي سوف لن تكون حكرا للمتلاعبين بالأفكار.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه