عندما يحكم القاضي بهوى السياسي

محمد منير*

 
القضاء محايد والسياسة منحازة .. هكذا طبائع الأمور، وعندما يتسيس القاضي لأي سبب يفقد حياده وعدله ، فما هي العلاقة التعارضية بين السياسة والقضاء ؟
في عام 1967 استدعى على صبري نائب رئيس الجمهورية المستشار ممتاز نصار رئيس نادى القضاة آنذاك وطلب منه الانضمام الي الاتحاد الاشتراكي ، وعرض عليه موقع أمانة القضاء بالتنظيم الواحد في الدولة فرفض نصار مستنداً إلي أن القضاء ملك للشعب كله.. ولا يمكن أن يكون ملكًا لحزب. بعدها قام على صبري آنذاك بكتابة مقالات بجريدة الجمهورية تدعو إلي إدخال القضاة للاتحاد الاشتراكي ليكونوا بجوار قوي الشعب العاملة.. ونعت القضاة بأنهم يعيشون في أبراج عاجية وأن فيهم بقايا الإقطاع والرأسمالية البغيضة.. وأنه يجب استئصالهم من جذورهم.
استمرت تداعيات هذا الموقف بين النظام الحاكم حتى وصلت الي مذبحة القضاة التي فصل خلالها المئات من القضاة بسبب نجاح قائمة ” نصار ” في انتخابات نادى القضاة في مواجهة قائمة مرشحي السلطة آنذاك، ولم يتحمل جمال عبد الناصر آنذاك موقف القضاة المستقلين عن السلطة فأعطى تعليماته بالتخلص منهم .
ما علينا من التفاصيل التاريخية الشاهد أن نظام عبد الناصر رغم انه كان يقود حركة التحرر العربي في مواجهة الاستعمار الغربي إلا انه لم يتحمل استقلال القضاء وحياده ، والذي كان صمام الأمان الوحيد لشطحات رجال الحكم مع المعارضين لهم .
بطش النظام الناصري وعنفه مع القضاة كان نقطة سوداء في تاريخ الحكم لم يستطع التاريخ التغاضي عنها ، لهذا حرص السادات على الحفاظ على المسافة بين الحكم والقضاة ، ولكنها كانت سياسة شكلية فقط  تحتفظ داخلها بمضمون رغبة الحكم في السيطرة على القضاء والقضاة وتطويعهم لتقنين قيود النظام مع المعارضين وتبرير البطش والعنف السلطوي ، لهذا غير السادات وسيلة السيطرة وبدلاً من أن يطلب من القضاة الانتقال إلى معسكر الحكم ، نقل سيطرة الحكم داخل معسكر القضاة عن طريق زرع موالين للنظام داخل جماعة القضاة ولائهم للنظام أكثر من ولائهم للعدالة ، وشهدت هذه الفترة قرارات حكومية بنقل ضباط شرطة إلى مناصب قضائية رغم اختلاف طبيعة المهمتين ، وشهدت أيضاً هذه الفترة ظهور قضاة ينفذون سياسات الدولة تجاه المعارضين ويصيغونها في هيئة أحكام قضائية ومنهم المستشار أنور أبو سحلي الذي تخصص في فترة السبعينيات في إصدار أحكام بمصادرة أعداد من صحف المعارضة منشور بها أخبار ومقالات تتعارض مع السلطة الحاكمة ، وتولى القضاء في ذلك الوقت مهمة الرقيب والمصادرة ورفع الحرج عن النظام.
وظل الصراع بين مدرسة القضاة المستقل والقضاة المُسيس مستمر سنوات تضاعفت خلالها قوة قضاة النظام وضعفت قوة القضاة المستقلين ، وشهدت هذه السنوات مشاهد صاعدة وهابطة عكست هذا الصراع ، ولكن لم تصل بحركة القضاة المستقلين إلي مرحلة الانهيار ، وهو ما يفسر تحركات القضاة المستقلين من عام 2001 حتى عام 2009 في مواجهة محاولة سيطرة الحكم على القضاة وتطويعهم لخدمة الحكم في مواجهة الشعب وخاصة في مجال تزوير الانتخابات ، وفى هذه الفترة لم تتوقف تحركات النظام بهدف السيطرة على جماعة القضاء فتم زرع قاضى موال للحكومة داخل النادي لكسر هذه الحركة وهو المستشار أحمد الزند ، والذي لم تكن مصادفة تعينه في منصب وزير العدل في حكومة النظام العسكري الذي وصل للحكم على أنقاض ثورة 25 يناير الشعبية وتوابعها .
النتيجة الآن تظهر بوضوح في الأحكام الباطشة ضد المعارضين للنظام والتي ارتفعت فيها وبمبالغة أحكام الإعدام والسجن المؤبد فرفع قضاة السلطة الحرج عن النظام العسكري وتولوا ذبح المعارضين تحت راية النزاهة القضائية، ليبقى النظام بعيداً عن مشاهد الحكم الديكتاتوري الباطش .. بل أن الانحياز السياسي للقضاة أصبح سافراً وخلع برقع الحياء الذي كان يتستر وراءه باعتباره حكم محايد ، ولهذا فأنه لا عجب أن تتصدر المواقف السياسية المنحازة للقاضي مقدمة  الأحكام الباطشة غير المستندة على أي موضوعية قانونية. 
المختصر المفيد ، انه رغم من كل هذا الانهيار في الساحة القضائية المصرية ، إلا أن رائحة القضاء المستقل مازالت نافذة، مؤكد أن الفكرة لم تمت والموقف لم يحسم بعد وجولات الشرفاء  من أجل الحرية مستمرة .

____________________

*كاتب وصحفي مصري 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه