عندما فُوجئنا بإبراهيم نصر مسيحي!

إبراهيم نصر المصري المسيحي سكن القلوب، وكنا نحسبه مسلماً، ولم يخرج من القلوب عندما علمنا أنه مسيحي، لأن التعامل مع الإنسان هو الأصل.

 

تُوفي الفنان إبراهيم نصر يوم الثلاثاء الماضي (12 مايو 2020). وكان يمكن لهذا الرحيل أن يكون عادياً، مثل كثيرين سبقوه. لكن فوجئ المصريون بأنه لم يكن مسلماً، إنما مسيحي، وذلك عندما نُشر خبر وفاته وتشييعه من إحدى الكنائس بالقاهرة. اندهشت من هذا الأمر، وتقريباً كل من قام برثائه على مواقع التواصل كان مأخوذاً مثلي بالمفاجأة، ذلك أن اسمه لم يكن يُوحي بأنه مسيحي. ولأن هذا الأمر لافت للانتباه فقد وضعت قناة الجزيرة اسمه ضمن سباق مع شخصيات أخرى ليختار الجمهور أهمها خلال الأسبوع.

إبراهيم، ونصر، اسمان مشهوران عند المصريين المسلمين، وهذا سبب الاعتقاد لدى الجمهور بكونه مسلما طوال حياته الفنية التي اقتربت من أربعة عقود. وهذا يعني أن الاسماء ذات الدلالة الدينية، وبعضها قادم من حقب قديمة، هى علامة على التمييز الديني ومعرفة الانتماء والهوية في مصر التي من أشد خصوصياتها أنها نسيج اجتماعي واحد بالفعل. فهى لا تعرف التنوع والتعدد والاختلاف الموجود في بلدان عربية وأجنبية كثيرة، ورغم أن التنوع ثراء وطني واجتماعي، شريطة أن يتسم بالانفتاح والتفاهم والمساواة والمحبة في إطار المواطنة، إلا أنه قد يكون وبالاً على وحدة ومتانة بعض المجتمعات كما هو الحال في العراق ولبنان.

وحالة التنوع الظاهرة في مصر، هى الانتماء الديني ما بين مسلم ومسيحي، ورغم هذا فإنه يصعب فرزها بسهولة، فلا تستطيع التفريق بين هذا وذاك لا في الشكل أو الهيئة أو الخصائص البشرية أو اللسان، أو العادات والطبائع، وحالة إبراهيم نصر نموذجاً، فقد دعا له مسلمون بالرحمة والجنة باعتباره واحدا منهم، وإذا كانت هذه الأدعية أثارت بعض الجدل غير المفيد للمجتمع المتآلف وحقيقة القبول بالمواطنة فإنه انتهى سريعاً دون استثمار سلبي، فليس هذا وقت عواصف كلامية ذات خلفيات عقائدية، ولا هو مناسب في أي وقت آخر.

ومن أسف أن التمييز الديني يعلن عن نفسه عبر مظاهر متعددة، ويمارسه الجانب المسيحي بشكل واضح، وهذا مزعج لوحدة المجتمع ولمدى فاعلية مبدأ المواطنة العاصم من الفتن، إذ بجانب الأسماء الكهنوتية، هناك مستجدات ما كان يجب أن تنشأ وتتحول إلى ظواهر، مثل: دق الصلبان على الأيدي، ووضع صلبان على واجهات بعض البيوت، وتعليق صور لشخصيات دينية مسيحية في المحلات والمتاجر، وارتداء حلي من الذهب والفضة تحمل رموزاً مسيحية، وغيرها من أشكال مستحدثة لمحاولة إبراز الخصوصية الروحية التي تجعل فكرة الأقلية قائمة، ولا تنهي الانعزالية، وتحول المواطنة إلى شعار في الخطب ولعبة في التوظيف السياسي.

التنافس الخفي:

ولا أعفي شرائح في الجانب المسلم من إبراز وإعلاء مظاهر التمييز الديني أيضاً، ليتحول الأمر إلى ما يشبه التنافس الخفي بين الشرائح التي يغيب عنها الوعي وتفتقد للنضج وتتسم بالأفق الضيق والأفكار المتشددة والنظرة الثقافية المشوهة، وهذا يقود إلى التطرف والأعمال العنيفة وشيوع لغة التكفير واحتكار الله وحرمان كل طرف للآخر من الجنة وإدخاله النار، والحقيقة أن هذا النوع من التفكير المعرقل للوحدة والانسجام الوطني قاسم مشترك بين كل أصحاب الأديان السماوية والعقائد الأرضية، ولهذا تظل الخلافات والصراعات والحروب ذات الخلفيات الدينية والطائفية هي الأخطر على البشرية في كل الأحوال.

لم يتغير تقديري للفنان الراحل عندما علمت أنه كان مسيحياً، بل كتبت كلمات طيبة عنه، وذكرت دوره البديع في فيلم “إكس لارج”، حيث أدى شخصية تُعتبر بصمة في هذا العمل، أما شهرته الواسعة فقد اكتسبها من تقديمه لأهم برامج الكاميرا الخفية.

مشكلة كبرى عندما يكون التعامل الوطني والإنساني مرهون بالهوية الدينية أو الطائفية أو العرقية، أو القومية؛ مثل هذا الثراء الاجتماعي والإنساني الناتج عن التنوع الفريد يتحول في بلدان عربية وإسلامية تسودها عقليات مرتبكة لجمهور غير ناضج بما يكفي، وهيمنة منظومات حكم تسلطية إلى أزمات وصراعات، والأخطر عندما توظفها جماعات متطرفة، وحكومات انتهازية لتحقيق مكاسب خاصة، ولو على حساب استقرار الأوطان والتمازج الاجتماعي.

العراق دخل نفق هذه الفتنة المظلمة، وهى التقتيل الهوياتي الذي تفشى فيه مثل الوباء بعد غزوه واحتلاله من جانب أمريكا عام 2003، وتيار المحافظين الجدد المتطرف في إدارة الرئيس الأسبق بوش الابن وراء بعث الطائفية والمذهبية والمحاصصة والعصبية فيه، ونتج عن هذا ازدهار جماعات العنف والإرهاب في هذا البلد، والحكومات المتعاقبة تورطت في اللعبة المدمرة ولا أمل قريبا في التعافي من مخلفات الماضي التي تقتل الحاضر.

والمشكلة في دعاة الكراهية والتعصب والحقد والفتنة والصراع من رجال دين وسياسة وتجار أوطان ودعاة تسلط واستبداد وأصحاب مصالح وأباطرة فساد وسلاح وعُبّاد مال ومرضى نفسيين وأغبياء بلا عقول، هؤلاء يقودون تجارة القتل منذ التاريخ القديم، وهم موجودون في مختلف الأمم الحضارات والثقافات، ويتغيرون في الأسماء والهيئات والأشكال، لكن تظل الفكرة والهدف والعقلية واحدة. وكل بلد قد يجد نفسه في آتون الفتن المدمرة ما لم يكن يقظاً ومنفتحاً وعادلاً ومتطلعاً للمستقبل ولا ينظر للماضي، ولعل مصر بحاجة لمذاكرة هذا الدرس باستمرار لإفساد اللعب والتلاعب بالورقة الطائفية.

سكن القلوب:

إبراهيم نصر المصري المسيحي سكن القلوب، وكنا نحسبه مسلماً، ولم يخرج من القلوب عندما علمنا أنه مسيحي، لأن التعامل مع الإنسان هو الأصل، وقد أحببنا فنانين ومثقفين وعلماء ورموزاً وشخصيات عامة ونحن نعرف أنهم مسيحيون، بل ويهوداً، فلا خلاف مع أحد من البشر، حتى لو كان خارج نطاق الأديان والعقائد، طالما أن الجميع مؤمن بالإنسان والسلام وينبذ الكراهية والعدوان.  

في ميدان التحرير خلال ثورة يناير 2011 كانت هناك لحظة تاريخية من الانصهار المصري بين المسلم والمسيحي، كتلك التي كانت في ثورة 1919، والمخلصون للوطن تفاءلوا بأنها ستكون مفتتح عهد جديد للبناء عليها لتكون الوطنية والمواطنة هى جسر هذا الشعب للعبور إلى المستقبل الحر الديمقراطي العادل المنفتح المنشود دون تسلط أو فتن.

لكن ما هى إلا فترة قليلة حتى ضاعت اللحظة الجميلة وانتكس الحلم ودخل التفاؤل غياهب العتمة مع مرحلة من الفوضى الثورية متداخلة الأطراف وهدفها إفساد الثورة فكرة وحلماً وبرنامجاً تغييراً شاملاً، وتحقق ما أراده المخططون في الظلام والعابثون والسذج في الميدان والمتحفزون للسلطة في الأقبية..

وعاد العنصر المسيحي ورقة للتوظيف السياسي والرسمي، والاستهداف من الحمقى منزوعي العقل والضمير، والمشهد اليوم مؤلم عندما أجد الكنائس محصنة من الخارج مثل الثكنات العسكرية لحمايتها، وعندما تكون حقوق المسيحي وحمايته مرهونة بسلطة حكم تُمعن في التذكير بهذا الدور الحمائي لأهداف ومكاسب خاصة بها.

وكل هذا ليس صحياً، ولا تثبيتاً لوضع قابل للاستمرار، فالوضع الوحيد المؤكد بقائه أن يكون التعايش والاندماج شعبياً طبيعياً بلا إرث ثقافي شديد التخلف في نظرة كل واحد للآخر ولا تفسيرات دينية إقصائية، ولا وصاية على الإيمان والآخرة.

السعادة التي أشاعها إبراهيم نصر لسنوات طويلة في كل البيوت، وعفوية محبته بعد وفاته حتى بعد اكتشاف أنه لم يكن مسلماً، هو ما يجب أن يسود وينشئ ثقافة إنسانية جديدة.

بل إنه يؤذيني تكرار القول: إنه ظل محبوباً رغم مفاجأة أنه مسيحي، ما يجب أن يكون هو التعامل مع محمد وبطرس، دون النظر لاسميهما، إنما بالنظر لكون كل منهما إنسان، وشريك في نفس العمارة، ونفس الشارع والمدينة والقرية والوطن الواحد.

وإذا كانت خانة الديانة لا تزال قائمة في البطاقة الشخصية فيمكن من خلال المعاملات أن تكون هى والعدم سواء، وأن تُفهم أشكال التمييز الطبيعية والمفتعلة على أنها ليست اختلافاً إنما هى مجالات فخر بالتاريخ والموروث والثقافة والشخصيات الخالدة في كل دين دون تعصب أو تشدد أو مكايدة.

إذا كان فيروس شديد الضآلة جعل البشرية كلها تواجه نفس الخطر، وفرض عليها التعاون والتضامن لمواجهة المخاطر، فإن درساً لم يكن متوقعاً مثل هذا يجب الاستفادة منه – بعد انتهاء الجائحة – ليكون التكاتف والتفاهم والوحدة هى قاعدة تنمية العلاقات وتعزيز التعاملات بين أبناء الوطن الواحد وبين جميع البلدان والشعوب في العالم مهما كان حجم وطبيعة الاختلافات والتناقضات بينها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه