عندما سألني الأمن السوري: “ليش عم تخطب عن فرعون”!

 

عندما اشتعلت ثورة يناير اشتعلت معها قلوبُ وأرواح التّوّاقين لطعم الحريّة في أوطانٍ باضَ فيها الاستبدادُ وفرّخ.

حينَها كنتُ أخطبُ في مسجدِ الحسين رضي الله عنه في مدينة درعا السّوريّة التي غدت بعد ذلك مهد الثّورة السّوريّة ومُنطلَقها.

وفي الوقت الذي كان ميدانُ التّحرير هو قِبلَةُ أرواحنا وقلوبنا شرعتُ في سلسلةٍ من الخطب المنبريّة تحت عنوان “فرعون من العلوّ إلى السّقوط.. ظاهرةٌ تتجدّد”.

 وكنتُ أتحدّث فيها عن فرعون ومعالم استبداده وطغيانه ومواجهة أهل الحقّ الذين يمثّلُهم موسى عليه الصّلاة والسّلام له، مع إسقاط ذلك على ما يجري في ميدان التّحرير، وعلى أحوال الشّعوب المقهورة مع فراعنتها.

وبعد الخطبة الثّانية من السّلسلة تمّ استدعائي من أحد الفروع الأمنيّة في المدينة، وهناك قابلني رئيسُ الفرع مقطّب الجبين متجهّم الوجه بنظراتٍ تقطرُ سمًّا زعافًا.

دونَ أيّة مقدّمات سألني: “ليش عم تخطب عن فرعون”؟!!

وبصراحةٍ مطلقة فاجأني سؤالُه وأربكني، فلم أتوقّع لوهلةٍ أن يسألني عن فرعون، وقبلَ أن أجيب أردف بسؤالٍ آخر أكثر إرباكًا حيث قال: “أنت شو دخلك بفرعون؟!!”

هنا لم أتمالك نفسي من الضّحك الذي حاولتُ كظمه لكنّه خرج على شكل ابتسامةٍ مجلّلة بالحيرة، وقلت مجيبًا محاولًا التّهرّب: “ما لي دخل بفرعون، وهو مجرّد حديثٍ عن القصص القرآني”

وعندها وجّه إليّ قرارًا أمنيًّا واضحًا قائلًا: “ممنوع أن تخطب عن فرعون أو تتحدّث عنه على المنبر لا تصريحًا ولا تلميحًا”

ووسط صمتي وعدم تعليقي بأيّة كلمة انتقل إلى حديثٍ أكثر هدوءًا لكنّه أكثر قلقًا رغم محاولات رئيس الفرع إخفاء ذلك برباطة الجأش المُتكلّفة.

الماسونية تحرك ميدان التحرير

 كانَ الحديثُ عن ميدان التّحرير في القاهرة، ولم يكن الحديث إيجابيًّا بطبيعة الحال، فقد وصف المعتصمين في ميدان التّحرير بالشّباب الفارغ وغير المتعلّم الذي تحرّكه أيدي خفيّة من الماسونيّة والموساد.

ثمّ وصل إلى النّقطة التي أظهرت اضطرابه الجليّ حين عبّر عن خوفه من أن يساهم الحديث عن فرعون بتحريض الشّعب السّوري الذي يتعرّض للمؤامرات للصهيونيّة على أن يفعل كما يفعل المصريون الذين يخرّبون وطنهم.

وعندها ظهر رعبُه للعلن حين قال عبارَته التي لا أنساها ولا أنسى نظراته التي تتفجّر خوفًا وهو يقولها؛ وأنقلها بنصّها رغم ما فيها من وقاحةٍ وبشاعةٍ حيث قال: “والله إذا الشّعب انفلت حتّى الله ما بيقدر يربطه” تعالى الله عمّا قال علوّا كبيرًا.

ويتجلّى في موقف رئيس الفرع وحواره وعبارتِه القبيحة هذه أمران هما:

الأوّل: التّعبيرُ عن الموقف الحقيقيّ للنّظام من ثورة يناير؛ فموقفُ رئيس الفرع هذا هو ذاته موقف الأجهزة الأمنيّة كلّها؛ هذه الأجهزة التي هي أسّ النّظام في سوريا.

 فعقب اندلاع ثورة يناير؛ الثّورة الأبهى في ثورات الرّبيع العربي دقّ النّظام السّوريّ نواقيس الخطر وارتعدت منه الفرائص وهو يرى الشّعبَ الذي لم يتوقّع يومًا أن يقول كلمته يقولُ “لا” بملء الفم والقلب والقوّة.

سقوط نظام كامب ديفيد

وهذا هو الموقفُ الحقيقيّ للنّظام السّوريّ من ثورة يناير وليس موقف الإعلام السّوريّ الذي تجاهلَ ثورة يناير تجاهلَا تامًّا حتّى يوم إعلان خلع حسني مبارك ليبدأ التلفزيون الرّسمي السّوري نقل البثّ المباشر من ميدان التّحرير تحت عنوان “سقوط نظام كامب ديفيد”.

والحديثُ عن “كامب ديفيد” عند سقوط حسني مبارك وكأنّ الشّعب المصري خرج لإسقاط كامب ديفيد فحسب، وليس من أجل العيش والحريّة والكرامة الإنسانيّة التي رفعها أبناء ميدان التحرير شعارًا لثورتهم العظيمة؛ ما هو إلّا تعبيرٌ عن حالةٍ عميقة من الرّعب فلا بدّ من محاولة إقناع الشّعب السّوري بأنّ المصريين ثاروا على شيءٍ لم يرتكبه النّظام الذي يحكمهم وهو توقيع معاهدة سلامٍ مع “إسرائيل” ولم يثوروا من أجل حريّتهم وكرامتهم المستباحة في محاولةٍ بائسةٍ ويائسةٍ لدفع كرة اللهب التي بدأت تتدحرج سريعًا.

على أنّنا هنا يجب ان نلاحظ بأنّ المؤسّسات الدبلوماسيّة السوريّة بقيت مبتلعةً لسانها حيال ثورة يناير في تعبيرٍ إضافيّ عن حالةِ الخوف والارتباك؛ حتّى إنّ وليد المعلّم وزير الخارجيّة حين سئل في مؤتمر صحفي عن تنحّي مبارك لم يزد على القول: “ما يجري في مصر شأن داخلي”.

وأمّا الأمر الثّاني الذي تجلّى في حوار رئيس الفرع وعبارته الأخيرة إلى جانب رعب النّظام السوريّ من كون ثورة يناير ملهمة للشعب الذي يعاني المآسي ذاتها التي دفعت المصريين إلى كسر القمقم؛ هو نظرة هذا النّظام للشّعب الذي يحكمه، فهو لا يراه إلّا راحلةً يملكها أو دابّةً يركبها لا يصلح معها إلّا الرّبط والكبت.

فلا شيء يخيف النّظام السوريّ كما غيره من أنظمة القمع والطّغيان أكثر من أن يعرفَ الشّعب نفسه وينفلت من عقالِ اليأس ويقطّع حبال الخوف التي ربطه بها المستبدّون عقودًا من زمنٍ.

فهم يخافون الشّعوب أكثر مما يخافون الله، مهما حاولوا التّستّر باللامبالاة، والشّعوبُ تبعثُ بعضَها بعضًا من جدث اليأس والإحباط.

فكانت ثورة يناير ثمثّل للنّظام السّوريّ الشعلة التي أوقدت رأس الفتيل لتسري ناره من ميدان التّحرير فتنفجر قنابل الحناجر في دمشق ودرعا وحمص وحلب وكلّ انحاء سوريا.

كان رئيس الفرع كما كلّ النّظام السّوريّ يعرفون جيّدًا أنّ فرعون السّاكن فيهم قد تزلزلت أركانه وارتعدت عظامه مع صرخات الشباب في مصر.

 وعلموا أنّ الصّرخة التي انطلقت في القاهرة سيتردّد صداها في كلّ مدن سوريّا لكنّهم لم يستطيعوا أن يكونوا إلّا فراعنةً في التعاطي والتّعامل الذي ظهرت تجليّاته بعد وقوع ما حذروا منه واندلاع الثّورة السّوريّة عقب بضعة أسابيع فقط من ثورة يناير البهيّة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه