عنان ليس الأول ولن يكون الأخير

في مشهد عبثي ، وحالة من الجمود السياسي الذي ترزح فيه  مصر تحت وطأة الحكم العسكري الجائر، يخرج الفريق سامي عنان من بين ركام الصمت ليحرك المياه الراكدة مستهلا خطابه إلي الشعب المصري بجملة جديدة علي سمعه، بينما يعلن ترشحه للرئاسة في مواجهة قائد الانقلاب الذي يحكم البلاد وقد قاربت فترته الرئاسية الأولي علي الانتهاء ” أيها الشعب السيد في الوطن السيد ” مسترسلا في خطابه باعتراف ضمني بالحالة المتردية التي تمر بها البلاد في مواجهة مباشرة واتهام سافر للنظام العسكري بالتسبب لما آلت إليه الأمور قائلا نصا ” وما حدث كل ذلك إلا نتيجة سياسات خاطئة حملت قواتنا المسلحة وحدها مسؤولية المواجهة من دون سياسات رشيدة تمكن القطاع المدني بالدولة من القيام بدوره متكاملا مع دور القوات المسلحة..”

وبهذا الإعلان المبدئي للترشح يفتح الفريق عنان علي نفسه نار الانتقام التي لم يسلم منها غيره مسبقا، وهو الذي كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش ويعي جيدا خطورة كل كلمة يتلفظ بها في وسط لا يرحم، ولا يعرف سوي أن الجيش “آلة قتل” لا تفرق في مواجهتها بين مدني وعسكري يتسبب في أي تهديد قد يعرض وجوده ومكتسباته للخطر أو المحاسبة.

تاريخ دموي من المكائد والانتقام

بدأت ما تسمي ” حركة الضباط الأحرار ” بالتخطيط للانقلاب علي الحكم الملكي وإزاحة الملك فاروق عن الحكم، ونجح الانقلاب العسكري وآثر الملك حقن الدماء والتنازل عن العرش لولي عهده ومغادرة البلاد، ففي صبيحة السادس والعشرين من يوليو/تموز من العام 1952 أبحرت الباخرة “المحروسة” من ميناء الإسكندرية لتقل الملك فاروق، الذي أجبر على التنحي بعد 16 عاما قضاها في حكم مصر، لينتهي الأمر في الثامن عشر من يونيو/حزيران من العام 1953 بإسقاط الملكية وإعلان البلاد جمهورية خاضعة لحكم الجيش بتزييف الحقائق وإطلاق كلمة ثورة علي حركة الدبابة والمدفع ، وتبدأ سلسلة الدم منذ ذلك التاريخ المكلل بتمزيق الوطن ليدفع ثمن الوجود العسكري في سدة الحكم آلاف من الأبرياء يودعون السجون والمعتقلات وتقام لهم المقابر الجماعية في عمليات قتل وتعذيب وحشي لم يفعلها المحتل الانجليزي قبلا ، وتطال يد البطش العسكريين أنفسهم ، فتبدأ القيادة العسكرية بالانتقام من الرئيس محمد نجيب، أول رئيس فعلي للجمهورية بعد الانقلاب العسكري لمجرد أن أبدي رغبته في عودة الحياة النيابية وعودة الجيش إلي ثكناته، وخوفا من شعبيته الجارفة التي أخافت زملائه “الصغار” ، يقتاد ويعزل وتحدد إقامته في منزل بسيط في حي المرج شمال القاهرة ويعيش به وحده إلي أن يموت في العام 1984، مما حدى بالدكتور  شوقي غلاب أن  يقول “تاريخ عزل محمد نجيب هو البداية الفعلية للحكم العسكري لمصر”، واصفا  محمد نجيب بأنه كان “ضحية يوليو”، أو بالأحرى ” ضحية يوليو العسكرية “. وإن لم يختم الانتقام من الرئيس محمد نجيب سلسلة الجرائم العسكرية في حق بعضهم البعض.

 فقد تلاه الرجل الثاني في النظام الحاكم ، شخصية أثارت الجدل في حياته وفي طريقة وفاته والتي ادعي النظام أنها انتحارا نتيجة الكارثة التاريخية في الخامس من يونيو في واقع لا يصدق ، إذ أن النكسة كانت في الخامس من يونيو/حزيران 1967 بينما وفاة عامر كانت في الرابع عشر من سبتمبر/أيلول في العام نفسه، أي بعد النكسة بثلاثة أشهر، ومن يقرر الانتحار لهزيمة لا ينتظر تلك المدة ، إنما في الحقيقة أن من يقرر القتل هو من يفعل حتى يخطط ويخرج سيناريو ملائم للخلاص من شخص ما.

 عبد الحكيم عامر الصديق الشخصي لجمال عبد الناصر وشريك الانقلاب والحكم ومؤسس الكلية الفنية العسكرية والذي أنشأ كذلك المصانع الحربية، ولأن العسكر لا بد لهم من كبش فداء يحملون عليه مصائبهم التاريخية، فلا يهم أن يكون ذك الفداء مدني أو عسكري، على رأس المؤسسة أو في مؤخرتها، ويودع المشير عامر المستشفي ليموت في ظروف غامضة.

ويذكر الكاتب ” وجيه أبو ذكري ” في كتابه” الطريق إلى النكسة ” بأن المشير عامر مات بالمستشفي بحقنة مسمومة، ولم يتصد لتلك الميتة ولم يمنعها أحد من القادة الذين كانوا يدينون بالولاء له، ولم يتذمر أحد بعد موته أو يبدِ اعتراضا.

معركة السيسي مع الحرس القديم

هل أتي السيسي ليصحح مسار الخامس والعشرين من يناير ويعيد الأمور في البلاد لما كانت عليه قبلها مع تفادي الأخطاء التي وقع فيها مبارك بعد تسليمه مقاليد الحكم لزوجته وابنه والذي سلم البلاد بدوره لشلته من رجال الأعمال؟ وبغض النظر عن كون ثورة الخامس والعشرين من يناير كانت بتواطؤ من المجلس العسكري وصمت حتى يتخلص من مبارك الابن ومجموعته لتؤول الأمور إليه مرة أخري ، فممارسات العسكر بعد الانقلاب تؤكد ضلوعهم في التخلص من قائدهم العسكري مبارك بتنحيته، والعودة للبلاد بوجه أشد شراسة من تلك التي عرفها الشعب في الثالث والعشرين من يوليو ، فقد أطاحوا آلافا من خصومهم المدنيين ، بعدما وضعوا أنفسهم في خصومة مع الشعب كله ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، فتمر سنوات الحكم المحنة التي وقعت فيها مصر علي يد قائد الانقلاب ومشاركيه لتمتد يد الانتقام لكل من تسول له نفسه بالانقلاب علي الانقلاب ولو بفكرة مقبولة قد يدعمها الشعب للخروج من مأزقه الكبير، ويبدأ السيسي في الخلاص من رموز حكمه لمجرد احتمال أن يكون وجهه مقبولا للغرب كبديل له يهدئ من غضبة تتنامي كل يوم داخل الشارع المصري، ولم يسلم من تلك التصفيات المعنوية أقرب الناس اليه وأقوي الوجوه منها علي سبيل المثال الشريك الأساسي وصهره محمود حجازي ثم أحمد وصفي وغيرهما من القيادات المعروفة لدي الأوساط العالمية بشراكتها في حكم مصر، لكنها مع ذلك تمثل وجوها قديمة أو بقايا النظام القديم لتتضح معالم الصورة أكثر بأن تلك الممارسات لا تعني مجرد العودة للمسار القديم في الحكم، وإنما الانفراد به لمجموعة تنال الثقة قد تتمثل في تسليم مقاليد المؤسسات المهمة كالمخابرات للسيسي الابن أو من يقع عليه الاختيار من تل أبيب أو البيت الأبيض لتنفيذ صفقات بعضها معلن عنه كصفقة القرن، وبعضها ما زال في طي الكتمان .

المعارك الانتخابية والوجه الأسود

وتعود معارك العسكر لبعضهم البعض في ثوب جديد ، ويكشف النظام العسكري عن وجهه الأسود القبيح مع رجاله ، فهذا هو الفريق أحمد شفيق يعلن من دولة الإمارات العربية مجرد رغبة في خوض الانتخابات ويشير مجرد إشارة لفساد الأوضاع في مصر ، فيؤتي به مكبلا ، وتمارس عليه الضغوط حتى يتراجع عن قراره ، وما زال الرجل تحت الإقامة الجبرية من دون أن يتلفظ أحد من زملائه العسكريين القدامى بكلمة تطالب بإطلاق سراحه أو عودة أسرته المحتجزة أيضا إليه ، وها هو الفريق سامي عنان رئيس أركان جيش مصر سابقا ، يمكث في المستشفي بين الحياة والموت ، لا يسمح له بإجراء عملية جراحية يحتاج إليها ويترك نهبة للموت تنكيلا به وتأديبا له علي قراره الذي اتخذه بالتنافس علي مقعد رئيس الجمهورية، والخروج عن الطاعة المطلقة للقرار العسكري ، فلم تشفع له مكانته وتاريخه العسكري في التجاوز عنه وعما أبداه من معرفة ووعي بما يدور خلف كواليس النظام من عمالة وفساد وبيع للأرض وتنازل عن مقدراتها وسوء أحوال المواطنين، لم يشفع له، كما لم يشفع لغيره ممن انتقم منهم النظام وجردهم من تاريخهم ، فلم يكن الفريق عنان الأول في التنكيل به ، ولن يكون الأخير ، وطالما بقي العسكر في سدة الحكم فلن يأمن مصري علي نفسه وحياته وأسرته إذا اعترض أو واجه أو تلفظ بكلمة قد تكون في غير المسار المطلوب.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه