عملية “عفرين” وتأثيرها على الداخل التركي

أعاد أردوغان التذكير أكثر من مرة أن تركيا تستقبل على أراضيها ما يقرب من ٣٠٠ ألف لاجئ سوري من أصل كردي.

في تمام الخامسة من عصر يوم السبت العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي أطلقت تركيا عمليتها العسكرية صوب منطقة عفرين السورية والتي أطلقت عليها عملية “غصن الزيتون” وذلك لتطهير عفرين ونواحيها من قوات حزب الاتحاد الديمقراطي “PYD” وقوات الحماية الكردية “YPG” والتي تمركزت في مناطق غرب الفرات عقب استعانة القوات الأمريكية بهم في حملتها ضد تنظيم داعش.

الحملة العسكرية التركية جاءت بعد أشهر من المحاولات السياسية الدؤوب لإقناع واشنطن بضرورة سحب تلك القوات من غرب الفرات إلى شرقه وعدم تدعيمها، إذ تعتبرها أنقرة امتدادا صريحا لحزب العمال الكردستاني “PKK” ، وتتهمها بالمشاركة في تنفيذ عدة هجمات إرهابية داخل تركيا سواء على مستوى التدريب أو الإعداد وصولاً إلى الدفع بالمنفذين من أراض تسيطر عليها وخاصة في عفرين، لكن الولايات المتحدة ضربت عرض الحائط بجميع المطالب التركية، وأعلنت قبل أسابيع قليلة تشكيل قوات كردية سيصل قوامها إلى ٣٠ ألف مقاتل تحت مسمى قوات أمنية، بل أمدت واشنطن تلك الميليشيات بشاحنات أسلحة متنوعة قدرتها تركيا بحوالي ٥٠٠٠ شاحنة؛ الأمر الذي دفع تركيا إلى إطلاق عمليتها العسكرية التي لاتزال متواصلة، في ظل تأكيدات تركية رسمية أنها ستمتد إلى منبج بل وشرق الفرات أيضاً.

ورغم تأكيد الرئيس رجب طيب أردوغان، بأن العملية العسكرية لن تستمر طويلاً، لكن يبدو ومن خلال الاستراتيجية التي تتبعها قوات الجيش التركي بالاشتراك مع قوات الجيش السوري الحر أن العملية قد يطول وقتها، نظراً للحرص على تجنب إلحاق أضرار بالمدنيين، وذلك بالتقدم ببطء نحو عفرين من جميع الجهات، والسيطرة المتتابعة على التلال والمرتفعات الاستراتيجية التي تتحكم في المسالك المؤدية إلى عفرين، ومن ثم تحرير القرى والبلدات بتكلفة أقل في الأرواح والممتلكات، كما تعمل القوات على قطع خطوط الإمداد عن التنظيم، لإضعاف قوته المادية والمعنوية.

وبعيداً عن النواحي العسكرية، التي تشهد تغيراً على الأرض على الدوام، فإنه مما لا شك فيه أن عملية “غصن الزيتون” ستمتد تأثيراتها على داخل تركيا وخارجها سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، لكن ما يهمنا هنا هو رصد تأثير العملية العسكرية على الداخل التركي.

هل تدفع “غصن الزيتون” الأكراد إلى التمرد؟

على خلاف عملية “درع الفرات” التي أطلقتها تركيا في أغسطس/آب ٢٠١٦، والتي استهدفت تنظيم داعش، الذي لا يتمتع بظهير في الداخل التركي، فإن العملية الجديدة التي تستهدف قوات الحماية الكردية في منطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية، يخشى معها أن تمتد تأثيرها على الوجود الكردي في داخل تركيا، إذ يشكل الأكراد ما يقرب من ١٥ إلى ٢٠ مليون، يتركز معظمهم في ولايات الجنوب الشرقي، الأمر لذي لم تكن لتغفل عنه الحكومة التركية، لذا اعتمدت استراتيجيتها على عدة محاور:  

  • بناء خطاب إعلامي متوازن يركز على أن الحملة لا تستهدف الأكراد الموجودين في عفرين، بل هي موجهة إلى التنظيمات المسلحة، التي باتت تشكل خطراً حقيقياً على الأكراد أنفسهم، إذ أعاد أردوغان التذكير أكثر من مرة أن تركيا تستقبل على أراضيها ما يقرب من ٣٠٠ ألف لاجئ سوري من أصل كردي رفضوا العودة إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الحماية الكردية، خوفاً على حياتهم ونفوراً من ممارسات تلك الميليشيات.
  • الرد المستمر على الحملة الإعلامية المضادة التي يطلقها التنظيم، متهماً تركيا بقصف المدنيين واستهداف المباني السكنية، وتفنيد الأدلة التي يسوقها التنظيم للبرهنة على صدق ادعاءاته، ومنها نشر مجموعة من الصور أثبتت تركيا أكثر من مرة زيفها وأنها تعود إلى أحداث في مناطق أخرى من سوريا أو اليمن.
  • عدم التوسع في استخدام القصف العشوائي وذلك لتجنب سقوط مدنيين، الأمر الذي قد يستغله التنظيم لتأجيج الشعور العرقي، ودفع الأكراد إلى الاحتجاج “الخشن” على العملية العسكرية.

ورغم أن إسطنبول وعدة ولايات في الجنوب الشرقي شهدت موجة تخريب واسعة في أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٤، إثر دعوة وجهها حزب الشعوب الديمقراطي HDP لأتباعه بالتظاهر عقب استيلاء تنظيم داعش على بلدة عين العرب “كوباني” شمالي سوريا، إلا أن الأمر الآن اختلف تماماً ولم تخرج أي تظاهرة في ولايات الجنوب الشرقي وذلك لعدة أسباب أهمها:

  • الحملة الأمنية الشرسة التي شنتها الحكومة ضد حزب العمال PKK وتمكنت من القضاء على معظم قدراته العسكرية، كما طالت تلك الحملة جميع المشتبه في تعاونهم  وتعاطفهم مع التنظيم من داخل حزب الشعوب الديمقراطي وعلى رأسهم رئيسا الحزب صلاح الدين دميرطاش، وفيجين يوكساكداغ، ما أدى إلى ضعف تأثيره داخل الولايات ذات الأغلبية الكردية، وهو التأثير الذي كان جزء منه يعود إلى خشية المواطنين من بطش التنظيم وانتقامه، وفي اليوم الأول للعملية العسكرية دعا متعاطفون مع التنظيم للتظاهر داخل إسطنبول، قابلتها السلطات بحملة اعتقالات بحق المتعاطفين ومنع أي مظاهرة لإظهار التعاطف مع التنظيم لقطع الطريق أمام تكرار تتكرر أحداث أكتوبر ٢٠١٤ التخريبية مرة أخرى.
  •  حالة الارتياح التي يشعر بها سكان ولايات الجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية، عقب الإطاحة برؤساء بلديات تابعين لحزب الشعوب الديمقراطي، بتهمة التعاون مع حزب العمال، وتعيين الحكومة بديلاً عنهم، استطاعوا خلال فترة وجيزة تطوير الخدمات المقدمة إلى سكان تلك المناطق، ما أشعرهم بالفرق، إضافة إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يتمتع بشعبية ليست قليلة خاصة في أوساط المحافظين الأكراد.

لذا فإنه يبدو حتى الآن أن هناك قناعة لدى قطاع عريض من الحالة الكردية داخل تركيا، بمشروعية الحملة العسكرية، وأنها موجهة إلى تنظيم لطالما عانى منه الأكراد أنفسهم.

غصن الزيتون هل تمهد الطريق أمام انتخابات مبكرة؟

جدل كبير سبق انطلاق العملية العسكرية، حول إمكانية الدعوة إلى انتخابات مبكرة، فرغم التأكيدات الرسمية المتكررة بأن الانتخابات (البلدية-النيابية-الرئاسية) ستتم في موعدها المقرر العام المقبل، إلا أن زيارات أردوغان شبه الأسبوعية للولايات التركية المختلفة فسرها البعض بأنها استعداد لانتخابات مبكرة قد تدعو إليها الحكومة فجأة، تزامناً مع إعلان دولت بهتشلي رئيس حزب الحركة القومية المعارض MHP، تأييد حزبه لأردوغان في الانتخابات الرئاسية القادمة،  من هنا فإن سير المعركة ونتائجها قد يحسم ذلك الخلاف، خاصة أن تحقيق القوات التركية لأهداف الحملة ونجاحها في تطهير المنطقة من الميليشيات الانفصالية، قد يسهم في إقامة منطقة آمنة، الأمر الذي من شأنه أن يمهد لعودة جزء من اللاجئين السوريين، مما يخف العبء من على كاهل الحكومة ويحرم المعارضة من ورقة لطالما استخدمتها لتأجيج الداخل التركي والتشهير بالحكومة.

هذا الأمر تدركه المعارضة جيداً لذا تباينت مواقفها إزاء عملية “غصن الزيتون” فبينما اصطفت معظم أحزاب اليمين ( الحركة القومية، الاتحاد الكبير..إلخ) مع الحكومة اصطفافاً تاماً وأعلنت تأييدها المطلق للعملية العسكرية، نجد أن الوضع مختلف لدى اليسار، فحزب الشعب الجمهوريGHP، أبدى معارضة غير مباشرة للعملية، ففي الوقت الذي سارع فيه رئيس الحزب كمال كليتشدار أوغلو بتأييد العملية منذ اليوم الأول ومن ألمانيا حيث كان موجوداً فيها آنذاك، إلا أن الحزب سرعان ما شن حملة ضد الجيش السوري الحر المشارك في العملية، واتهمه صراحة بالإرهاب، مردداً ذات الاتهامات التي لطالما كالها للجيش الحر منذ عام ٢٠١٢، الأمر الذي قابله أردوغان بهجوم شديد على الحزب ورئيسه بل واتهمه صراحة بالخيانة واتهم الحزب أنه لا يفرق شيئاً عن حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، وذكَّر أمام الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، أن الأتراك والعرب حاربوا سوياً خلال معركة الاستقلال في تشناق قلعة وفي غيرها، بل ذهب كليتشدار أوغلو إلى مدى أبعد، حينما دعا الحكومة إلى ضرورة الجلوس مع بشار الأسد، الأمر الذي قوبل بالرفض من قبل أردوغان، الذي أكد أنه لا يمكنه الجلوس مع قاتل لمئات الآلاف من شعبه.

موقف كليتشدار أوغلو فسره كثيرون بأنه محاولة من جانبه للتشويش على أي نجاح متوقع للعملية العسكرية، قد تنعكس آثاره دونما شك على الانتخابات القادمة سواء أجريت في موعدها المقرر العام المقبل أو تم التبكير بها.

وهكذا فإن هذه العملية -إضافة إلى عملية درع الفرات- وإن كانت ستدفع إلى إعادة التموضع التركي في المنطقة، إلا أن تأثيرها في الداخل لا يمكن إنكاره سواء على المستوى السياسي، أو على المستوى الشعبي الذي نجح أردوغان في تهيئته، عبر خطاب راعى فيه الأبعاد العقدية والموروثات الثقافية، التي تشكل وجدان ووعي المواطن التركي.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه