عمـائم على بـهائم

إن فكرة الاجتراء على العلماء ليست جديدة، وإن كان الجديد فيها الآن اتساعها وكثافتها، فلقد كان في الماضي سابون، وبعض ذوي الألسنة الحادة – حتى بين العلماء فيما سمي بتحاسد الأقران

 

الألباني حمار في الحديث!

ابن باز يجهل وينسى!

الشعراوي مشعوذ دجال مثل راسبوتين!

سيد قطب حلولي معطل،

الأزهريون عمائم على بهائم،

وفلان عدو للسنة، وغيره بوق خاسر لغيره!

فلان أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى!

علان يعبد الشهرة، ولو قيل له اسجد لصنم – من أجل الشهرة – لسجد!

ترتان خنـزير، فلتان حمار، ضال مضل، …. خبيث عميل!

لافتات مختلفة

لا تعجل عليّ قارئي العزيز، ولا تظن أنني أجمع معجمًا في الشتائم، أو أقدم   “وصلة” من سوء الخلق – نعوذ بالله – لكنني أنقل بعض المأثورات التي بدأت تنتشر عبر الكاسيتات والكتب، وعلى ألسنة بعض الناس، لتعكس نظرتهم لعقول الأمة، ومناراتها المضيئة، بدلًا من الدعاء لهم، والترحم على الموتى منهم، والذب عن أعراضهم.

وهي موجة كانت منتشرة في السبعينيات بين جماعات التكفير المنقرضة، لتظهر أواخر التسعينيات في أردية أخرى، وتحت لافتات مختلفة، ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله التفرق والاختلاف، والطعن في خيار عباد الله – ولا نزكي على الله أحدًا – وتكفير العلماء تحت شعارات جديدة.

ثم تفاقمت في السنين العشر الأخيرة في موجة من التكفير (العلمي) المتدثر بأقبح ألفاظ الجرح، والاستباحة، والممالأة، والانبطاح، والأفكار السفاح!

والحق الذي يبدو لي أن علماء الأمة في معظم سني القرن الأخير “حيطة واطية” أو “طوفة هبيطة” -كما يقول أهل الخليج – يتسوّرها كل أحد، ويجترئ على اقتحامها من يعقل ومن لا يعقل!

يجترئ عليهم بعض الكبار، ويصفونهم بأنهم (مرميين زي الكلاب)/ ريحتهم  نتنة/ اضربوهم في مقتل/ الخوارج.. إلخ!

ويجترئ عليهم بعض الصحفيين، ويتهمونهم بالارتزاق والدجل والراسبوتينية! وتتخصص مجلات حمراء في حملات من “الشرشحة” والسباب لهم بشكل دوري!

ويجترئ بعضهم على بعض (!) فيتهاجون، ويتهاجرون، وتخرج الأشرطة وفيها تبادل للشتائم، وتوزيع “لخيرات” الألسنة، ليهب كل منهم حسناته لأخيه بظهر الغيب.

ويجترئ عليهم الشباب فيصلونهم نارًا حامية من الشتائم واللوم وقلة التقدير.

ويجترئ عليهم العلمانيون “النخبويون المثقفون” وأصحاب الأفكار العوجاء فيصفونهم بالجهل، والتفاهة، وعدم معرفة الإسلام، والعجز عن التعامل مع النصوص!

ويجترئ عليهم الممثلون (!) وأهل الفن فيسبونهم، يجسدونهم على الشاشة في أشكال مهرجين ونفعيين، يغيرون فتاواهم بحسب “النولون” واتجاه الريح!

والحق أن أمة لا تحترم عقولها، ولا موجهيها نحو طريق الله عز وجل، أمة لا يمكن أن يستقيم أمرها، ولا يهتدي شبابها، ولا تنضبط حركتها، بل لن تتبع إلا الأهواء، والمواضعات المتخبطة، لأنها بغير بصيرة، وبغير مرشدين.

ليست جديدة

إن فكرة الاجتراء على العلماء ليست جديدة، وإن كان الجديد فيها الآن اتساعها وكثافتها، فلقد كان في الماضي سابون، وبعض ذوي الألسنة الحادة – حتى بين العلماء بعضهم بعضا فيما سمي بتحاسد الأقران – لكن الله تعالى أخمد ذكر أولئكم، وأضعف شأنهم ورفع غيرهم.

وما استقر في قلوب الناس غير عالم مهذب شديد التواضع، عذب اللسان. فمن يقرأ للنووي أو الذهبي أو ابن القيم – رحمهم الله ورضي عنهم – يجد حلاوة منطق، وأدبًا، وعذرًا للمخالف.

كنت أنظر في كتاب صغير الحجم للإمام النووي عليه رحمات الله “التبيان في آداب حملة القرآن” وأتعجب للرجل العملاق الذي لم يدع فرصة لتطييب ذكر إخوانه العلماء – معاصرين وسابقين – إلا اغتنمها، فلم يتكلم عن أحد إلا بكثير من الثناء: ” الإمام المجمع على حفظه وإمامته أبو محمد الدارمي/ الإمام المجمع على جلالته أبو بكر ابن المنذر/ كما قال أقضى القضاة الماوردي/ عن السيد الجليل الفضيل بن عياض/ أبو حنيفة رضي الله عنه! إلخ.

بل إنه – قبل هذا كله – يفتتح كتابه بكلمة منيرة ينقلها عن الحافظ أبي القاسم ابن عساكر رحمه الله الذي يقول:

اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه، ويتقيه حق تقاته: أن لحوم العلماء مسمومة، وإرادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم”.

ولعل بعضهم يحتج باستباحة الكلام في العلماء بأن هذا من باب بيان الحال، والجرح والتعديل الواجبين، لكننا – والله – ما علمنا أن الجرح والتعديل يتمان على المنابر وعبر الأشرطة والكتيبات، فلا اسم لهذا إلا الفضيحة – كما قال أسلافنا رضي الله عنهم: “النصيحة على الملأ فضيحة” ولا اسم لهذا إلا استباحة شتم المسلمين، والانشغال بأعراضهم؛ بدلًا من الانشغال بالنفس.

وأتمنى أن يصبر عليّ قارئي العزيز، وعلى هذه الملامح في الظن بالعلماء، لعل فيها ذكرى تنفع مؤمنًا، أو تذكر غافلًا، أو تنبه مستدرَجًا، وما أبرئ نفسي عن القصور والهوان:

– لا يختلف مسلمان على أن المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأن كل أحد غيره يؤخذ من كلامه ويترك، فلا قداسة لكلام أحد بعينه بعد المعصوم صلى الله عليه وسلم.

هذا جزء من منهج السلف الصالحين والأئمة المهتدين.

– لا يخلو كتاب – بعد كتاب الله عز وجل – المحفوظ – من أخطاء قليلة أو كثيرة، بحسب قربه وبعده من حدود الاتباع في الفهم والتصور “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا”.

– اعتاد العلماء أن يختلفوا، وأن تتعدد أنظارهم في الفكرة الواحدة. ومع الاختلاف والتعصب أحيانًا لوجهة النظر، يبقى للعالم فضله.

وقد كتب سلفنا رضي الله عنهم كتبًا في أدب العالم والمتعلم، وفي تبييض سير العلماء، كما فعل ابن عبد البر في الجامع، والنووي في التبيان والمجموع، وابن تيمية في رفع الملام، والآجري في أخلاق العلماء، وكما طبق أسلافنا العظام مما هو مشهور في الكتب التي تتحدث في فقه الخلاف.

من قواعد الشريعة

– قال العلامة ابن القيم رحمه الله: “إن من قواعد الشريعة رد خطأ العالم، مع بقاء فضله، فإن المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، مثل الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث” وما أنفس هذا من كلام!

– إن الحكم على النيات، وتحميل الألفاظ ما لا تحتمل، وافتراض بعض المعاني التي يحتملها كلام الشيخ، وقصره عليها، أمر ليس من العدل، ولا المنهج، ولا السنة: أفلا شققت عن قلبه/ والله يتولى السرائر؛ إلخ.

– إن تقديـم العذر، وعدم المبادرة بالقدح، من سلوك المهتدين الذين علمونا أن نلتمس للمسلم عذرًا من سبعين عذرًا، فإن لم نجد له عذرًا ظننا أن له عذرًا لا نعلمه، فإن استعسر ذلك اتهم أحدنا قلبه القاسي الذي لا يحسن أن يعذر المسلمين.

– إن الحكم بكفر أو ضلال أو ابتداع أو ما شابه، أمور شديدة، لا تترك نهبًا للأهواء، وقلة الخبرة، وضعف التحصيل، إذ تترتب على هذا الألفاظ أحكام شرعية، وأحوال دعوية واستثنائية.

وقد رأينا سلفنا الأولين حذرين – بشدة – في استخدام ألفاظ الجرح والتعديل، التي لم يجترئ عليها إلا المتأخرون، حتى جاء أبناء القرن العشرين ليوزعوا أحكام الفسق والبدعة والانحراف، ويفتحوا أبواب النار على الدعاة من خلال أجهزة الكاسيت.

إن هناك حفرًا يحفرها أبالسة من الجنة والناس، لينشغل المسلمون بعضهم بعضا، ويستبيح كل منهم حرمة أخيه، لتتسع الخروق على الإسلام، وليتمطى الانحراف والباطل، ويبيض ويفرخ، ويقوى ريشه، ويحلق في أجواء المسلمين، وكم من مسلم سلم من لسانه أهل الانحراف والضلال، ولم يسلم من لسانه الألباني وابن باز والقرضاوي والغزالي والشعراوي، وجاد الحق وغيرهم، مع وضوح التحذير الإلهي هنا:

(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) فاطر: 6!

وقوله تبارك وتعالى وعز وجل : “وكونوا عباد الله إخوانًا”.

– من الأبجديات التي يعرفها كل أحد أن المسلم ليس “بالطعان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء” فكيف يغرينا الشيطان بتأليف كتب خاصة في الشتائم؟

– رأينا من علمائنا المقتدى بهم في عصرنا أدبًا شديدًا، وأعلى مثال أراه في ذلك الشيخ ابن باز حفظه الله، ذلك الرجل عف اللسان، رقيق الحاشية، والشيخ صلاح أبو إسماعيل عليه رحمات الله، والدكتور الديب، والشيخ محمد قطب، والشيخ الشنقيطي عليهم رحمات الله.

وأشهد بالله العلي العظيم أنني رأيت العلامة الشنقيطي يتصبب عرقًا، ويتلعثم في ألفاظه، لأن لسانه سبق بكلمة “تبدو” سيئة لأحد الطلاب تلاميذه، ثم أصلح الشيخ – بسرعة بديهة – خطأه، واعتذر للطالب أكثر من مرة.

وكان – على علمه الذي لم أر مثله – يقول عن نفسه: “لقد صرنا علماء بعد أن مات العلماء الحقيقيون” فإذا بنا الآن في زمنٍ الصغارُ فيه علماء!

وبدلًا من أن ندعو لمن علمونا – في كل صلاة – صرنا نتقرب إلى الله تعالى بسبهم.

أليس هذا قلبًا للموازين؟!

وكبرًا فيه كل الغمط للناس؟!

ألا هل بلغت؟

اللهم فاشهد!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه