علم إسرائيل في سماء القاهرة وحامل علم فلسطين في السجن

 

منذ أيام ليست بعيدة وأثناء إحدى مباريات كرة القدم، رفع شاب مصري علم فلسطين، ربما كتحية لصمود أهل فلسطين في مواجهة الاحتلال الصهيوني، أو ربما يقصد بها الشاب التضامن مع القضية الفلسطينية أو أي مقصد آخر، وفي رد فعل غير متوقع هاجمته عناصر الأمن السري، والتي كثرت في شوارع مصر مؤخرا، واعتقلته، وبعدها بأيام أمرت جهات التحقيق بحبسه على ذمة التحقيق، ولا نعلم ما هي جريمته؟

للأعلام (الرايات) قصص كثيرة في مصر، ولكل قصة دلالة وفي كل دلالة عظة ودرس لا يستفيد به إلا من يعرف معنى قراءة التاريخ.

بعيدا عن أدبيات وقواعد كتابة المقالات اسمحوا لي أن اكتب كلماتي وكأنها حديث تستفزه الهموم والاندهاشات والتساؤلات بلا ترتيب ولا تنميط.

ذكريات مؤلمة

من الذكريات المؤلمة لرفع العلم ما حدث عام 1882م عندما رفع المحتل الإنجليزي علمه لأول مرة على عربة التشريفة التي يستقلها خديوي مصر توفيق وبجانبه قائد القوات الإنجليزية، وهم يدخلون بها العاصمة القاهرة قادمين من الإسكندرية إيذانا ببدء الاحتلال البريطاني لمصر تحت مباركة الحاكم، وخرجت جريدة الأهرام تزف للشعب المصري بشرى الاحتلال الإنجليزي لمصر: «ورد تلغراف رسمي من الباسل الجنرال ويلسي أن السواري الإنجليزية احتلت العاصمة المصرية مساء أمس تحت قيادة نجل ملكه بريطانيا دون أدنى مقاومة وأن الجنرال ويلسي يدخلها اليوم مع البيادة، وورد تلغراف آخر إلى سمو الخديوي المعظم أن الجيش الإنجليزي قبض على العاصي عرابي. ابتسم ثغر مصر واهتز عطفها طربا وتهللت القلوب فرحا».

وارتفع العلم البريطاني في سماء مصر بمباركة الخيانة والجهل، وفي الوقت نفسه سقط علم مصر مع هزيمة عرابي، وحاز الخائن والمحتل صفات البطولة والشجاعة، أما المقاتل المقاوم المدافع عنه وطنه ضد الاحتلال فأصبح خائنا عاصيا، وظل العلم البريطاني يحتل سماء القاهرة ما يزيد على سبعين عاما.

علم الصهاينة يرتفع في مصر

وبعد هذا التاريخ المؤسف بما يقترب من مئة عام ارتفع علم العصابات الصهيونية مخترقا سماء القاهرة في 26 من فبراير (شباط) 1980 وسط غضب شباب نشأوا على عقيدة ثابتة، أن الجهاد ضد العصابات الصهيونية فريضة وواجب مقدس، وتحرير فلسطين هدف دونه الموت، غضب شباب ملتهب بنيران المذابح الصهيونية من دير ياسين وكفر قاسم وصابرا وشاتيلا والممتدة حتى يومنا هذا، غضب زاد من لهيبه وعنفة حكام العرب الذين خذلوا شعوبهم وذابوا في أحضان الصهيونية والمصالح العالمية، وبعد هذا التاريخ بعام وتحديدا في يناير (كانون الثاني) 1981 اقتحم رجال وشباب ونساء غاضبون أرض المعارض في الجزيرة أثناء انعقاد معرض الكتاب الدولي، لمنع إجراء أول تطبيع ثقافي مع إسرائيل من خلال وجود جناح للكتاب الإسرائيلي في المعرض وقاموا بتحطيمه وإسقاط العلم الإسرائيلي ورفع علم فلسطين ومصر، وتمت مواجهتهم بواسطة قوات أمن مصرية مواجهة عنيفة وبشعة وتم اعتقالهم واقتيادهم للمعتقل وهم مضرجين بدمائهم، وكعادة نظم الخيانة المتبجحة وجه لهم النظام العميل تهمة الخيانة، لرفعهم علم مصر وفلسطين، وتحت غضب الرأي العام المصري آنذاك وانفعاله، واحتجاج المؤسسات النقابية، والدور الذي لعبته نقابة المحامين وتضامن محامين من معظم البلدان العربية، أفرجت السلطات المصرية عن المعتقلين بتهمة عداء الصهيونية.

وظل علم فلسطين وظلت القضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل محددات ثابتة لمعنى الوطنية عند المصريين، وفي المقابل استمرت الأنظمة العربية في مخطط الخيانة والتسليم للصهيونية في إطار مخطط طويل المدى يستند على أساس واحد لضمان نجاحه وهو قمع الشعب ونشر الإحباط واليأس بين الأجيال المتتابعة.

استكمال المخطط

وبعد ثورة 2011 الشعبية التي عطلتها الثورة المضادة ومؤامرات أصحاب المصالح وبعض النخب وقلة الخبرة الناتجة عن سنوات القمع الطويلة، أيقن معسكر المصالح الصهيوني في مصر ضرورة البدء في مرحلة التتويج للمخططات الصهيونية، وبدأ بخطوات مسرعة سياسة التفريط في استقلال الأراضي ومنح الكيان الصهيوني وضعا استراتيجيا يمكنه من تنفيذ هدفه النهائي في المنطقة، وكان التخلي عن السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير للسعودية أحد إجراءات هذا المخطط الذي يديره في هذه المرحلة النظام المصري والسعودي بالتحالف مع تشكيلات العصابات الصهيونية التي تحتل فلسطين، وكالعادة خرجت القوى الوطنية الجريحة بفعل تحالف الخيانة ضدها، لتقاوم هذا الإجراء معلنة في إصرار التمسك بالسيادة المصرية على الجزيرتين، وفي تبجح غير مسبوق ينشر النظام رجاله وسط المدينة وهم يرفعون الأعلام السعودية في مواجهة علم مصر، وفي تكرار قدري يتم اعتقال الوطنيين المدافعين عن الوطن ليعلو العلم السعودي فوق العلم المصري، ويظل العلم الصهيوني يرفرف في سماء القاهرة.

ربما يصاب البعض بالإحباط بعد قراءة هذه الحقائق المفزعة، ولكن القراءة المتأنية كما قلت للتاريخ تشير إلى عكس هذا الانطباع، فالتركيز في الأحداث يكشف لنا حقيقة متفائلة، وهي أن رغم كل هذه المؤامرات والتحالفات الدولية لم تفقد مصر ولم يفقد شعب مصر روح المقاومة طوال الوقت، وأن رفع شاب لعلم فلسطين أثناء مباراة كرة قدم في تحد واضح لجبروت الخيانة ما هو إلا إشارة على أن الوعي والرجولة والوطنية ما زالت جذورها ضاربة في أرض مصر، هذا بالإضافة إلى المصير البشع التي انتهى به كل حاكم خان وطنه.

وما زال وجدان الشعب المصري يتجدد شبابه مع الأجيال الواعدة في اتجاه هدف واحد وهو ثورة حتى النصر، ثورة في فلسطين وفي مصر.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه