علة النخب ومأساة الشعب

 

المتعارف عليه عند غالبية شعوب العالم أن هناك ثوابت ومسلمات وبديهيات تحكم إطار العمل السياسي، وأهمها الاعتراف غير المشروط بتداول السلطة واحترام حرية الرأي والتعبير والاعتراف بالآخر، وكل هذه البديهيات والمسلمات محصنة بمظلة حماية الجماهير ولا تتغير ولا يتأثر حجمها ولا مداها بأي اختلاف أيدولوجي، فالشعوب في هذه البلدان هي الغاية وهي الوسيلة.

هذا التوزان بين المسلمات بالديمقراطية والحرية وتداول السلطة والوعي الجماهيري هو الذي ضمن استمرار الحياة الديمقراطية وتطورها في معظم بلاد العالم وخاصة في الغرب، ولم تستند هذه الضمانات والثوابت في أي حال من الأحوال على صدق نيات الحاكم أو ارتقاء وعيه، ولو كان الأمر كذلك، لكان شخص مثل الرئيس الأمريكي ترمب نصّب نفسه إمبراطورا على الولايات المتحدة مدى الحياة، ولكن كما قلت المعيار الأساسي في هذه المجتمعات هو الثوابت والمسلمات التي تحكم المجتمع كله وتدعمها إيجابية الدور الجماهيري.

المقدمة السابقة تنقلنا إلى سؤال هو  هل علة الحياة السياسية في مصر سببها ديكتاتورية الحكام والأنظمة الفاشية المتعاقبة على حكمها، أم انهيار في وعي الجماهير وعطب ضارب في جذور النخب؟، أم كلاهما ؟.. وماهي الأسباب؟

مجتمع الأشباه

معذرة إذا التقت الصفة التي سأتحدث عنها، مع تعبير دأب چنرال مصر على استخدامه عندما قال: إن مصر شبه دولة، ولهذا وجب أن أنوه  أن محتوى الصفة ومقصدي بها يختلفان تماما عن محتوى الصفة ومقصدها عند چنرال مصر.

والحقيقة الحياة السياسية في مصر لم تشهد رؤى متكاملة للتغيير، وقدمت الفرق السياسية دائما رؤى ناقصة أو شبه رؤى للتغير، تحمل ما يحقق أهداف الجماعات دون قياس الصالح الجماهيري العام، وأصبح الأمر أشبه بصراع الفرق الرياضية وتشجيع الجماهير لها.

وظلت الجماعات العقائدية والأيدولوجية طوال الوقت مشغولة بالصراع الأيدولوجي بين النخب، وخطورة هذا الصراع لم تقف عند حد ارباك الحياة السياسية بل ضللت وعي الجماهير وأعاقت قدرتهم على الحفاظ وحماية حقوقهم كمواطنين في ممارسة حقوقهم الديمقراطية وتطبيق مبدأ تداول السلطة بكل نزاهة وشفافية، وبتوضيح أكثر شتت الخلافات بين الفرق السياسية طاقة الجماهير وأربكت بوصلتها، وهو ما يفسر الفشل الذريع في التطبيق الديمقراطي وعدم قدرة المواطن المصري على ممارسة حقوقه الديمقراطية، التي تحولت إلى نصوص دستورية بلا تطبيق.

وارتفعت حدة الصراع بين القوى المدنية وعلى رأسها المجموعات الاشتراكية وبين الاتجاهات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، وكان لكل منهما منطلقاته الفكرية والعقائدية التي شكلت الهدف الرئيسي لكل فرقة، تسعى لتطبيقه دون الاهتمام بالحقوق والثوابت التي تحمي حقوق المواطنة، أي أن أهداف الجماعات والمجموعات السياسية منفصلة عن الصالح العام للمواطن بل ومقدمة عليه، وهذا ما يفسر اختلاف الرؤى بين هذه الفرق حول العلاقة مع الجماهير

العلاقة مع الجماهير

أتذكر في السبعينيات من القرن الماضي وأنا في مرحلة الدراسة الجامعية كنت منخرطا في المجموعات الاشتراكية، وكانت الجامعة في هذه الفترة تعيش انفتاحا فكريا بشكل نسبي مقارنة  بالمراحل التي أعقبتها، وكانت فرصة الحوار بين الاتجاهات المختلفة متاحة وبشكل نسبي أيضا، وأتذكر في حوار مع زميل جامعي كان منتميا إلى الجماعة الإسلامية، أن وجه انتقادا للفكر الاشتراكي قائلا: «مشكلة الاشتراكيين أنهم يسعون لتغيير الحكم والأنظمة عن طريق الجماهير الواعية بمصالحها، ولهذا معظم أنشطتكم السياسية تضيع في أنشطة التوعية الجماهيرية ومشروعات محو الأمية»، فلما سألته عن موقع الجماهير في فكرهم السياسي أجاب: «نحن نسعي للاستيلاء على الحكم ومن خلاله نقود الجماهير بشرع الله، فنحن الذين نقود الجماهير وليس العكس”

وكانت معظم هذه الاتجاهات تؤمن بأن الشعوب يتم حكمها من خلال الثوابت والقواعد الدينية، التي لا تعترف بالاختلاف أو تداول السلطة مع اتجاهات أخرى مستندة إلى أن المرجعيات الدينية لا تحتمل الخطأ وأنها الصواب المطلق، وحتى دعوات بعض الفرق منهم لمبدأ الشورى بينهم كانت مقيدة بسقف الالتزام والطاعة، ورفض الآخر، بل وتكفيره في بعض الأحيان.

واتسمت الاتجاهات السياسية ذات المرجعية الإسلامية بالانغلاق الفكري ومرجعيته الثوابت الإلهية الدينية التي بالطبع لا يدخلها الشك، والتي يتطلب الالتزام بها أكبر قدر ممكن من السمع والطاعة لأولي الأمر، وعدم الالتفات إلى أي طرق أو أساليب أو نظريات دنيوية مثل الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية.

الجمود العقائدي

ولم يكن حال أصحاب الأفكار الاشتراكية والليبرالية من القوى المدنية مختلفا كثيرا عن حال أصحاب الاتجاهات السياسية ذات المرجعية الدينية، فقد اتسموا بنفس المستوى من الجمود والانغلاق على أفكارهم، وكانت علاقاتهم الوثيقة بالجماهير مشروطة بإتباع الجماهير لأفكارهم ورفض أي أفكار أخرى، حتى لو كانت في موقع المعارضة من الأنظمة الحاكمة المستبدة بل ونفي وجودها من الأساس.

وأصبحت الديمقراطية بالنسبة لكل اتجاه من هذه الاتجاهات أداة مقبولة إذا ما انحاز الاختيار الجماهيري نحوه، وهذا ما يفسر عدم الاحترام المتبادل للخيار الديمقراطي بين كل الفرق، وهي الفجوة المثالية التي دلفت منها القوى الفاشية للساحة السياسية وتلاعبت بكل الفرق وسيطرت عليها ووصلت سدة الحكم واستلقت في ثبات سنوات طويلة لا ملامح لبدايتها ولا لنهايتها، وحتى النظريات الاجتماعية التي قدمتها المجموعات الاشتراكية كانت تحمل النكهة الغربية وبعيدة تماما عن الواقع المصري فأصبحت علاقات هذه المجموعات بالجماهير غريبة وغير مكتملة وغير مؤثرة.

حياة سياسية مبتسرة

وهكذا نبتت كل الاتجاهات السياسية، مقدمة الالتزام بإطارها الفكري والعقائدي والأيدولوجي الخاص بها، على الالتزام بالثوابت المشتركة الضامنة للحريات والعدالة المدنية لكل المواطنين، ولهذا نجد مظاهر الاختلاف الأيدولوجي في الغرب تختلف تماما عن مظاهر الاختلاف الأيدولوجي في مصر والمنطقة العربية التي تحولت من اختلافات إلى صراع مقدم على مصالح المواطنين والوطن وهو ما أدي إلى تدمير مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية وبالطبع تداول السلطة وهو المبدأ الذي انشغل عنه أصحاب الأيدولوجيات بالصراع بينهم، وبالطبع أيضا في هذا المناخ ظهرت أفكار وفرق لا تستند على أيدلوجيات أو أفكار محددة، مثل الفرق الفاشية والمتطرفة  التي كانت انعكاساً لحالة الارتباك الفكري والتشويش الذي تسببت فيه صراع الأيدولوجيات.

ولهذا لم تتكون أي رؤية متكاملة للتغيير في مصر، ولم تكتمل معالم الحياة السياسية المصرية التي ولدت مبتسرة، فاستحقت بتفاصيلها كلها صفة «شبه»، شبه أحزاب، شبه نظريات، شبه مواقف.

أمام هذه التوليفة المتداخلة لا بد أن يكون الوجود الوحيد المسيطر والمنظم والذي لا يعاني من أمراض الأيدولوجيات، هو الحكم العسكري الذي وجد باب الحكم مفتوحا أمامه على مصراعيه، دون أي ضوابط تمنع أو حتى تحد من شطحاته الفاشية بحكم تركيبته العسكرية التي تستند على اتباع أوامر القيادة ولفظ مبادئ الحوار والديمقراطية.

وفي ظل حكم الأنظمة الفاشية المستبدة مارست تشكيلات المعارضة نشاطها مقدمة الصراع بينها عن الصراع مع النظام الفاشي، بل وصل الأمر إلى سعي الكثير من فرق المعارضة للتحالف مع الأنظمة الفاشية ودعمها للقضاء على الفرق الأخرى!!

وبالطبع وفي هذا المناخ وهذه الحالة تضيع الثوابت الضامنة لحقوق وحريات الشعب مثل الديمقراطية وتداول السلطة والحرية والعدالة الاجتماعية، وهذا هو الفرق بين كثير من المجتمعات الغربية التي تشهد ساحات العمل السياسي فيها تنوعات فكرية وأيدولوجية تقدم الاتفاق حول الثوابت الضامنة لمصالح شعوبها على الاختلافات بينها، ويحميها شعوب تراقب مصالحها وحقوقها، هي مجتمعات تستند الحقوق العامة والحريات فيها على الضبط المجتمعي.

المشكلة

ورغم ما هو معروف تاريخيا عن الحضارة المصرية القديمة التي كانت أكبر حضارة شهدتها المجتمعات الإنسانية، إلا أن الانهيار الذي تعيشة مصر الآن شكل صورة معاكسة تماما للصورة التاريخية.

يتحدث ابن خلدون عن العديد من العوامل التي تؤدي لانهيار الحضارات، وكان من أهمها عامل الاستبداد بالملك وحصول الترف، ورغم انطباق هذا العامل على الحياة السياسية في مصر، ورغم التردي المجتمعي الذي يشهده الواقع المصري ورغم البؤس الذي يعيشه الشعب محاطا بالفقر والجهل والمرض، ورغم وضوح ملامح الطوفان المدمر القادم على مصر، رغم كل هذا فما زالت، فرق المعارضة الرافضة للاستبداد تتناحر مع بعضها منشغلة بالخلاف عن قيادة سفينة النجاة غير الموجودة، فقد انشغل الجميع بالخلافات فيما بينهم ونسوا تشييدها.

وما زال الأمل في الخلاص قويا في ظل صعود أجيال واعية متحصنة بدروس التاريخ واستيعاب أخطاء السلف، يرونه بعيدا ونراه قريبا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه