علاقة الصوم باقتصاد السعادة

الشعوب لا تريد منحة من الزعماء، الذين لم ينتجوا في حياتهم سوى القمع والإذلال والإفقار، لا تريد من الغول وعدا بعدم التهامها، بل تريدالسيطرة على ثرواتها.. يتبع.

 

د .اسامة الكرم*
يعد علم اقتصاد السعادة علما حديثا إلا أن الأديان سبقته بآلاف السنين.
كان علم الاقتصاد يبتعد تماما عن دراسة مشاعر الإنسان وسلوكه، كان يتجرد من حسابات الأحاسيس باعتبار أن هذا العلم له قواعد يلتزم بها المستهلك والمستثمرالرشيد، ولكن علماء الاقتصاد اكتشفوا أنهم ضيعوا دراساتهم وإحصائياتهم سدى، فإشاعة واحدة كافية لتهوى بأكبر الأسهم، بل وبالبورصة كلها، خلال دقائق، حيث إن المستثمر هنا لايخضع لقوانين الرشادة ، بل يخضع لجنون المغالاة ويلهث وراء الجشع، والجشع والسيطرة على الثروات من أبرز أسباب الصراعات البشرية، وقد استنفذت 14.3 تريليون دولار خلال العام 2014 طبقا لتقرير معهد الاقتصاد والسلام .
الطمع والجشع سلوك إنساني يجعل الإنسان لا يشبع ولا يرضى فيبقى ساخطاً حتى نهاية حياته، وبالتالى لايشعر بالسعادة التى لاتتولد بما نملك، بل بإدراكنا وتقديرنا لقيمة مانملك .
لذلك فالأديان أرادت تحرير الإنسان من الجشع بالصوم، الامتناع عن الشرب والأكل يقوى الإرادة والسيطرة على الرغبات. وكما يقول أبو حامد الغزالي :  النفس إذا لم تُمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات”.
ثنائية الجشع والأنانية يتولد عنها الظلم والجور، والانتهازية والاستغلال والفساد المالى مثل الرشوة ونهب المال العام. هذة الثنائية لايمكن قهرها إلا بالامتناع عن ابسط الرغبات الإنسانية وهى الأكل والشرب، فيتم تدريب الصائم على قهر الرغبات وتقوية الإرادة، وتدريب النفس على كبح جماح شهوات تدفعه للجشع والطمع والاحتكار والغش ورفع الأسعار  …..إلخ .
منذ مئات السنين كتب شكسبير العديد من الأعمال والمسرحيات التي ما زالت تصلح لزماننا هذا، لأنها عالجت المشاعر والدوافع الإنسانية والتي في جوهرها ثابتة إلا أنها تتلون وترتدى لباساً مختلفا في كل عصر وعهد.
و”تاجر البندقية” لشكسبير تتحدث عن تاجر مراب، وكضمانة لسداد دين أحد المقترضين، فانه يطلب اقتطاع جزء من جسده عند العجز عن السداد بديلا عن النقود التي اقترضها. وتم اعتبار شايلوك وهو التاجر في المسرحية رمزا للجشع الإنساني، ولانعدام الرحمة.
لكن، وخلافا للنظرة السائدة لعلم الاقتصاد عند المشتغلين به والمنظرين له، والتي صورته كمجموعة من القوانين الموضوعية تتحكم بالاقتصاد وتقوده بشكل ميكانيكي، بعيدا بل ومنزها عن السلوك البشري، يؤثر به ولا يتأثر به، تلقت الأسواق صفعة قوية عند انهيار سوق الأوراق المالية نتيجة التلاعب والاحتيال والجشع الانساني، والتي هي سلوكيات إنسانية في الأساس مبعثها النفس البشرية بكل تناقضاتها، مخاوفها وطمعها. ولن ننسى في هذا السياق حالة الهلع التي تصيب المستثمرين في سوق المال لمجرد شائعة!
ويجمع كل الخبراء والمحللين الاقتصاديين أن الجشع هو العامل الاساسي في الأزمات الاقتصادية العالمية وفي أسواق المال. لقد وصل الأمر بدولة كاليونان إلى تزييف تقاريرها المالية، لكي تثبت للعالم وللمستثمرين، وهم في العادة الناس البسطاء الذين استثمروا أموالهم التي هي ضمانة شيخوختهم في مراهنات قامت بها شركات مالية، لا تنتج إلا جداول ورسوم بيانية، ويتقاضى مديروها الملايين مقابل عملهم في المراهنة في سوق القمار العالمية.
لانتحدث هنا عن جديد، فالتاريخ الإنساني مليء بقصص “الجشع” الإنساني، وللوصول إلى السلطة والسيطرة على مقدرات الناس البشرية والمالية ارتكبت أبشع الجرائم، ولم يرتدع المتنافسون على “التملك” عن ارتكاب المذابح وتجويع الملايين لكي يملأوا بطونهم، بينما الملايين ينامون متألمين من تقلصات الجوع
وفي السنوات الاخيرة بدأت تتعالى صرخات الضعفاء الذين يصب ناتج جهدهم في حسابات مصرفية للكبا، يشعر معها صاحبها بأنه ملك الكون، يمتلك أكثر مما يحتاج، تتكدس أمواله بينما الآخرون يتضورون من آلام الجوع والحاجة. ومن هذه الصرخات، كانت الصرخة المدوية التي أطلقها محمد بوعزيزي التونسي، قد أعلنت انطلاق ثورة المطحونين،ليس في العالم العربي فقط  بل في كل أرجاء المعمورة.
وأمثلة الجشع كثيرة نراها منتصبة أمام أعيننا، فأصحاب الفخامة والسيادة، قاموا ويقومون بسرقة ما تنتجه الأرض والسواعد الكادحة من خيرات، ويجمدونها في بنوك بفائدة تقترب من الصفر، لكي يضمنوا غدا ليس للابناء وحدهم، بل امتد الجشع لضمان تأمين مستقبل الأحفاد، يعاونهم على ذلك خبراء يأكلون من خبز المستبد ويضربون بسيفه.
ولم يسلم رمز الرأسمالية المتبلدة، شارع وول ستريت، أيضا من متظاهرين حاولوا احتلاله، وتغيير موازين القوى لصالح الذين يعملون وينتجون، وليس لصالح الذين يضاربون وتحركهم رغبات الجشع والامتلاك.
وتشير تقارير المنظمات الدولية، والتي تعنى بالغذاء وتبحث الفقر وآثاره على البشرية، إلى وجود ما يزيد على المليار إنسان في العالم من الجياع، والذي يعني ببساطة أنهم يحلمون بتناول وجبة غذائية واحدة يومياً، بينما تتم سرقة المليارات، ويتم صرفها على البذخ، أو على القتل وسفك الدماء!!
النظام الاقتصادي العالمي بما فيه سوق المال بحاجة إلى كوابح جديدة، لضمان عدم سيطرة الجشعين على مقدرات البشرية، عن طريق الصوم. ولتحقيق العدالة الإنسانية والقضاء على الفقر والجوع، الذي هو في الغالب نصيب الدول النامية ودول العالم الثالث، وتغيير أنظمة الحكم في هذه البلدان والتي في غالبيتها يسود نظام حكم شمولي دكتاتوري مستبد يستند على القمع، على غرار أنظمة الحكم في الدول المتخلفة.
الشعوب لا تريد منحة من الزعماء، الذين لم ينتجوا في حياتهم سوى القمع والإذلال والإفقار، ولا تريد من الغول الجشع وعدا بعدم التهامها فى وجبة الإفطار، بل تريد السيطرة على ثرواتها، ليتم توزيعها بعدالة ولكي يصل لكل “مجتهد” منها نصيب. ولن يتحقق ذلك إلا بتحكم الكبار فى رغباتهم فى الجشع، ويمكن للصيام أن يكون أولى الخطوات.

__________________

*كاتب  مصري وخبير اقتصادي
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه