عسكرة مصر.. قدر أم استسلام؟!

في مقال سابق لي عنوانه “العسكري الشامل” تحدثت عن المبررات التي يسوقها البعض لضرورة استمرار الحكم العسكري لمصر

وفى هذا المقال أريد أن أتوسع قليلاً في الضرورة القدرية التي فرضت على الشعب المصري، الحكم العسكري أو هيمنة العسكر حتى في ظل وجود حاكم مدنى، وهل هو قدر أبدى أم واقع يعكس استسلاما وكسلا شعبيا في مواجهة واقع منهار ضارب بجذوره في تربة التاريخ المصري؟!

في نهاية النصف الثاني من القرن السابع الميلادي تعرضت مصر للفتح الإسلامي على يد القائد العسكري عمرو بن العاص.

 

ولم يكن الفتح الإسلامي لمصر أمرًا ثنائيًا بين مصر والدولة الإسلامية في الجزيرة العربية، وإنما كان ضمن سلسلة الحملات العسكرية التي خاضها المسلمون ضد الدولة البيزنطية لرفع راية دولة الخلافة الراشدة

 

وانتهى الأمر بانتزاع مصر من يد الروم ودخولها دولة الإسلام، وبصرف النظر عن حالة السلمية التي قابل بها أقباط مصر الفتح الإسلامي في مواجهة بطش الرومان تجاه الشعب المصري، والذى ظل جاثما على قلوبهم عقدًا من الزمان، إلا أن الواقع التصنيفي للفتح الإسلامي يضعه في مصاف الفتح العسكري وبداية عصر الولاة المسلمين في مصر، وكان القائد العسكري عمرو بن العاص أول والٍ مسلم لمصر.

وظل ارتباط الوالي أو الحاكم العسكري بمصر ارتباطا وثيقا طوال السنوات التالية التي كانت فيه العسكرة وهيمنة الجيوش ضرورة لاستقرار الدولة، وربما لم يكن هذا أمرا شاذا في معظم دول العالم في هذه الفترة التاريخية.

وظلت الضرورة العسكرية محيطة بالحكم في مصر في مواجهة الأخطار المحدقة بالخلافة الإسلامية الوليدة بصفة عامة، والتي أصبحت مصر جزءًا منها، وبمصر بصفة خاصة لاستمرار المطامع الفارسية والرومانية القديمة فيها.

وفى سلسلة متصلة يستمر الاحتياج إلى الحكم المرتبط بالعسكرة والقوة في ظل الصراعات داخل دولة الخلافة نفسها، وخاصة الصراعات بين السنة والشيعة، والتي كانت مصر إحدى ساحات الصراع المهمة فيها خلال حكم الدولة الفاطمية، وما شهدته هذه الفترة من صراعات دموية واغتيالات وتعذيب بين الفريقين.

 وبعد عودة مصر إلى مظلة السنة إثر سقوط الدولة الفاطمية، كانت السيطرة والهيمنة الأساسية للماليك، والذين هم في الأساس تكوينات عسكرية، وظل الحاكم جزءا من التكوين العسكري وقائد الجيوش، وحتى في ظل لحظات محدودة تاريخية لم يكن فيها الحاكم ضمن المكون العسكري مثل فترة حكم شجرة الدر ، حيث كان للمماليك الهيمنة الرئيسية على الحكم بالقدر الذى أزاحوا فيه شجرة الدر بقوتها وجبروتها عن الحكم، وقفزوا مرة أخرى كقوة عسكرية على العرش.

وتتوالى الضرورات التاريخية المؤكدة لدور العسكر المهم في مصر ابتداء مما ذكرناه وربما قبل ذلك، مرورا بأحداث كثيرة منها الهيمنة العثمانية على مصر حتى الحملة الفرنسية وظهور الإرادة الشعبية المصرية في مواجهة المحتل الفرنسي، وهى الإرادة التي كانت مرشحة لخلق مرحلة مفصلية في تاريخ مصر يحكم فيها المصريون أنفسهم من خلال قادة مدنيين من العلماء والمشايخ المتعلمين، إلا أنه وعلى ما يبدو لم يكن وعى المصريين وقدرتهم قد اكتملا بالقدر الذى يؤهلهم لهذا الدور، واكتفوا باختيار قوة عسكرية أخرى ممثلة في محمد على الذى سرعان ما أطاح بالقيادة الشعبية الطبيعية التي قادت المقاومة ضد الفرنسين ورفعته إلى كرسي الحكم.

ولم يكن محمد على عسكريا غبيا أو ضيق الأفق فقد أدرك المتغيرات العالمية المحيطة به، خاصة عقب الثورة الفرنسية وأدرك أهمية الحضارة والتقدم العلمي لخلق دولة قوية تضمن استمراره في الهيمنة، وربما التوسعات ومناطحة الدولة العثمانية نفسها، فقام بالعديد من المشروعات الهادفة للنهوض المجتمعي والحضاري في مصر، ونجح فيها إلى حد كبير، إلا أنه وفى الجانب السياسي ظل يعتمد على الحكم العسكري القمعي، والذى دفع المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي إلى الإشادة بإنجازاته ووصفه في نفس الوقت بالظالم.

دفعت مشروعات محمد على وتوسعاته كل المصالح الاستعمارية التي تحالفت مع الدولة العثمانية للحد من توسعاته وحصاره في حكم مصر فقط، ومن الملاحظ أن أصحاب المصلحة في مواجهة محمد على استعانوا بكل الأدوات في مواجهته بمن فيهم المماليك إلا القوة الشعبية والمدنية لإدراكهم خطورتها وتعارضها مع مطامعهم الاستعمارية لو تمكنت من السيطرة.

يستمر الحكم العسكري لمصر من خلال محمد على وأسرته حتى الاحتلال الإنجليزي لمصر الذى استمر أكثر من سبعين عاما، شهد العالم خلالها حربين عالميتين انتهت الثانية بنتائج أثرت على العالم، أهمها بدء أسلوب جديد في هيمنة الدول الكبرى على العالم والاستعمار يرتكن إلى الهيمنة الاقتصادية والحضارية التي تعتمد على التطور العلمي والتقني بدلا من الاستعمار العسكري، وفى هذه الفترة انتهى الاستعمار الإنجليزي لمصر بعد ثورة عسكرية أطاحت بهم وبالحكم الملكي، إلا أن العسكر القائمين بالثورة تجاهلوا المتغيرات العالمية، وتجاهلوا أهمية الحكم المدني، واستمروا في حكم البلاد وبنفس أسلوب محمد على، حيث أقاموا العديد من المشروعات التنموية التي تضمن لهم الاستمرار وخلق كيان يمكنهم من مواجهة المطامع الاستعمارية المحيطة بمصر، ومما هو جدير بالذكر أنه رغم التناقضات الظاهرة بين الحكم العسكري لمصر والإمبريالية العالمية التي قادتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا إن الغرب الإمبريالي لم يسع مطلقا طوال هذه الفترة إلى دعم حكم مدنى في مصر ولا في البلدان العربية المحيطة، بل على العكس كان يدعم الانقلابات العسكرية، لإدراكه التناقض الرئيسي بين مصالحه والحكم الوطني المدني، وهو ما يضفى معقولية ومنطقية للمعلومات المتواترة عن اتصالات غير معلنة بين النظام المصري في الستينيات والولايات المتحدة رغم العداء الظاهر بينهما عن طريق وسطاء مثل محمد حسنين هيكل، ولا عجب فالمصالح الأساسية بينهما والتي تتمثل في استمرار العسكر في الحكم وتجنب الحكم المدني تسبق التناقضات الثانوية التي تتمثل في الصراع الظاهر والمعلن.

 

 وتتوالى الأحداث ما بين موت عبد الناصر والسادات وخلع مبارك من الحكم وتولى المجلس العسكري بمباركة القوى المدنية في مشهد مشابه لتسليم القوى المدنية الحكم لمحمد على عقب جلاء الفرنسيين، لنصل إلى هذه الفترة التي تعتبر امتدادا لحكم العسكر.

 

 السؤال هل كل التفاصيل التاريخية مبرر طبيعي ومنطقي للحكم العسكري لمصر واستبعاد الحكم المدني، أم هو كسل وانهيار وعى بسبب أمراض الجهل التي تسببت فيها المراحل الاستعمارية الطويلة التي مرت بها مصر، خاصة في الحقبة العثمانية وفترة الاستعمار الإنجليزي.

نجح الشعب المصري في طرد الحملة الفرنسية ومواجهة الإنجليز ونجح في ثورة 25 يناير 2011 ضد الحكم الفاسد، ولكنه طوال الوقت لم يتخلص من عقدة التبعية للأبوية العسكرية، وهو ما يفسر تسليم الحكم في لحظات الانتصار للعسكر عقب طرد الحملة الفرنسية، وبعدها بأكثر من مائتي عام عقب ازاحة مبارك برجاله عن الحكم.

 نحتاج لوعى جديد وفكر ثوري يطيح بأسطورة الحكم العسكري لمصر.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه