عزيزي فشير.. حدثني عن الثورة المؤجلة

 

(1)

تحية مودة وتقدير/ وبعد

منذ سنوات طويلة وصلتني نسخة من كتاب الناقد اللبناني محمد سويد عن السينما اللبنانية، وبعد وقت قصير ضاعت من رأسي كل المعلومات التي لم يتضمنها الكتاب، لكن عنوانه ظل ناصعاً قويا يتحدى النسيان، لأنه كان بمثابة تعبير فلسفي تجاوز موضوع الكتاب ليعبر عن مجالات كثيرة في حياتنا، بل ليعبر عن حياتنا نفسها.. “حياتنا المؤجلة” برغم أننا نستهلك ايامها ونتوهم أننا نعيشها.

كان الكتاب بعنوان “السينما المؤجلة”، أي السينما التي تمتلك الكثير من مقومات النجاح وتقدم نفسها بين فترة وأخرى كـ “عربون” وليس بما يليق بها، انتظاراً لـ.. (أو ضلالاً عن) مستقبل واقعي مزدهر لم تدخله بعد، ربما تذكرت عنوان الكتاب اليوم وأنا أكتب كلمة “الصديق” قبل اسمك، فهذا نداء القلب، لكن الواقع يعارض حميمية المشاعر ليؤكد أن علاقة المودة بيننا ليست صداقة واقعية بل “صداقة مؤجلة”، ومن هنا أبدأ الحديث عن ثنائية “الموجود والمنشود” أو “المشتهى والمنتهى”، محاولاً الجمع بين ثنائية أخرى نؤمن بها معا وهي “الاختلاف مع الود”.

(2)

عزيزي فشير/

أدين لك بكتابة مستفيضة ونقاشات طويلة، أظنها من حق الناس أكثر، وفي ظل الشتات الذي فرضته على الجميع “فوضى الانتقال” و”رياح ما بعد الحداثة” ظلت روايتك الأخيرة على مكتبي في القاهرة تنتظر عودتي، وظلت رسائلك الأخيرة المقتضبة في وصف الحال ترن في أذني، وها أنا أبدأ الحوار متجاوزا كل العقبات، فقد سعدت في الفترة الأخيرة بعودتك الحذرة للاشتباك مع الواقع السياسي الذي حذرتني منه، وطالعت مقالاتك لأقرأك قبل أن اقرأها، وبما أنني أكتب لك في صورة مقال عام لا رسالة شخصية، فمن الأنسب درامياً أن أغير وجهة المُخَاطَب وأكتب عنك لا لك، فيقرأ الناس وتقرأ معهم كواحد منهم، فيصير النقاش في الموضوع لا في الشخص:

(3)

لا أختلف مع الدكتور عز الدين شكري فشير في مقاله المعنون بسؤال حتمي: “لماذا يستحيل على المعارضة حكم مصر؟”، لأن فشير هو الذي يختلف مع نفسه، لذلك لم أرغب في الاشتباك مع المقال بعبارات الصد والرد، والوقوف عند ظاهر الوصف وأحكام اللحظة، وقلت لنفسي ربما استخدم الكاتب أسلوب كشف الضعف للتحريض على الفعل، كأن تقول الأم لابنها التلميذ “والله ما هتنجح ولا هتفلح في حاجة وهتفضل طول عمرك خايب”، وهي هنا تحرض لا تقرر وتحسم النتيجة، وربما يكون الكاتب يسعى لتفكيك بنية النظام الحاكم معتبراً أن المعارضة جزء بنيوي وعضوي من هذا النظام، وبالتالي فإنه يحمل جيناته ولا يمكن أن يوجد ويعمل باستقلالية تامة عن النظام الذي يغذيه عن طريق شرايين متصلة تسري فيها نفس الدماء ونفس الثقافة ونفس القيم، لذلك لا يمكن أن أصدق أن الروائي والدبلوماسي وأستاذ العلوم السياسية المتبني لمفاهيم “ما بعد الحداثة” يتحدث من منطلق “الحتميات” ويقول مثل هذه العبارة النهائية القاطعة: “قوى المعارضة يستحيل عليها حكم مصر حتى لو وحدت صفوفها ونظمت نفسها، هذه الاستحالة لا ترجع فقط لاستبداد العسكريين، فحتى حين ينهار التأييد الشعبي لحكمهم ويضطرون للانسحاب وتسليم السلطة، ستفشل قوى المعارضة في الحكم بدرجة لا تقل عن فشل العسكريين وتدخل البلاد في مرحلة جديدة من الفوضى”.

(4)

العبارة تذكرنا بمقال سابق أشار فيه فشير إلى حتمية سقوط “حكم العسكر” وانسحابهم من الحكم، وهي نبوءة لا خلاف عليها إذا أسقطنا شروط العلوم السياسة وتعاملنا بمفهوم “الصيرورة” وحتمية التغير بصرف النظر عن دور الإنسان فيه، وهذا أشبه بمقولة: “كلنا هنموت”، فهي صحيحة على إطلاقها لأن الكل سيفنى في يوم ما، لكن عندما ينطق طبيب أو حاكم بمثل هذه العبارة (الصحيحة كمطلق) فإن الأمر يوحي بالشك وأجواء المؤامرات والكوارث.
لذلك سعيت لإظهار الفارق بين “المطلق والمتعين” في نبوءات وأحكام فشير، حتى لا تتحول الرغبة في التحريض وتجاوز التخلف إلى دعوة لليأس وعدم الجدوى.
وكان لزاما أن نحطم خرافة التعميم في حكم فشير على المعارضة في الفشل، ووجدت ذلك في تعريف فشير بذاته للمعارضة داخل مقاله، فهو يقصد (كما كتب) “المجموعات والأشخاص الذين يسعون للمنافسة على الحكم أو المشاركة فيه.
وبالتالي لا أتناول تنظيمات ومبادرات المجتمع المدني التي تعمل على انتزاع مكاسب أو تنازلات من السلطات بشأن قضايا معينة أو نشر الوعي بها”، ومن هذا التعريف للمعارضة يتبين أن الكاتب يقصد طائفة من المتصارعين على الحكم ولا يقصد المعارضة بمعناها الشعبي الواسع، وهو بحكم دراساته ونمط تفكيره وطريقة حياته طرف فاعل في هذه المعارضة.

(5)

ارتكز فشير في في زعمه على أربعة افتراضات، مع العلم بأن كلمتي “زعم” وافتراضات” من الأوصاف التي كتبها فشير بنفسه تطبيقا لشروط ما بعد الحداثة في نفي الحتميات، وعدم التسليم برأيك كحقيقة مطلقة، وفي الافتراض الأول أوضح أن غالبية قوى المعارضة تشاطر العسكريين نظرتهم للدولة والعالم، ويختلفون فقط في كفاءة الإدارة بنفس المفاهيم السلطوية والشوفينية والديموجاجية ونظرة العداء للأخر وخصوصا الغرب.
 والافتراض الثاني أن هذه القوى عاجزة عن بلورة استراتيجية لتعبئة التأييد الشعبي بشكل مستدام يتجاوز الهبات والانتفاضات، بل إنهم ينظرون جميعا للشعب بوصفه متخلفا جاهلا لا مبالياً.
والافتراض الثالث يبدو تكرارا للافتراض الثاني ويتمثل في العجز عن فهم السياسة باعتبارها رؤية مستقبلية شاملة لا مجرد تغيير في الاشخاص.
والافتراض الرابع يتلخص في الإسراف في تقديم وعود باغراءات غير واقعية يصعب تحقيقها، تمنح فئات الأنصار وتحرم فئات الخصوم داخل المجتمع، وضرب مثلا على ذلك بخطاب الموالاة عند الجميع بحيث لا تختلف قوى المعارضة «المدنية» لا عن الإخوان في الإنحياز لأنصارهم وإقصاء غيرهم محذراً من «الرؤية الصفرية» للصراع الاجتماعي والسياسي.

(6)

كما قلت لا أختلف مع فشير، لكنني أتحسب من مقاصد المقال: هل هي التحريض أم التسليم بحتمية الفشل؟، لذلك أصوغ مقالي اليوم في صيغة سؤال أطرحه على الدكتور فشير، ليوضح ما التبس عندي: هل يمكن لنا أن نعمل من أجل تغيير هذا الفشل المنتشر؟، أم أنه قدر سرمدي لا يمكن الفكاك منه؟

والحوار موصول

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه