عدالة منتقاة في الخرطوم، تطــــوي الســــنين القــهــــقرى.

                          

     تواصل حكومة الثورة في السودان تحقيقات مع من اعتقلتهم من جماعة نظام الإنقاذ، بتهمة تقويض النظام الدستوري في البلاد، وذلك بالانقلاب الذي استولوا به على السلطةفي الآونة الأخيرة خبرٌ عنوانه:(النائب العام يشكل لجنة تحقيق  في عام 1989، وأطاحوا به بالحكومة الديمقراطية، التي كان رئيس وزرائها آنذاك السيد الصادق المهدي، وأقاموا حكمهم الذي استمر ثلاثين عاما، مما جعل السيد الصادق واجداً على ذلك النظام طيلة هذه الأعوام الثلاثين، حتى قضى الله تعالى بزواله بسننه في كونه، وذلك بالثورة الشعبية، التي تولدت عنها الحكومة التي يهيمن عليها اليسار الآن في الخرطوم، فشبع السيد الصادق بزواله شماتةً وارتوى، إلا أنه شبعٌ وارتواءٌ لم يشفيا له غليلاً على قائد ذلك الانقلاب، الرئيس السابق عمر البشير، فأخذ يدعو بأساليبَ مختلفة، إلى تسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية.

تحدث السيد الصادق بادئ الأمر، عن ذلك التسليم المُرتجى، فذكر ضرورةَ أخذ رأي أولياء الدم فيه، أي الذين قُتل ذوهم في حروب التمرد على حكمه، ومما يبدو أن ذلك كان منه حثاً لهم على التحرك في هذا الشأن، والتقدم إلى حكومة الثورة، بطلب تسليمه إلى المحكمة الدولية، حتى تشرع الحكومة في خطى ذلك التسليم. ولم يمر قليلُ أيامٍ على قوله ذاك، إلا ورهطٌ قيل إنهم من أولياء الدم لم يخيبوا له ظناً، فتقدموا بطلبٍ إلى الحكومة، راجين تسليم البشير للمحكمة الدولية. وأثار السيد الصادق بعد ذلك هذا الموضوع مرة أخرى، في حديث أدلى به إلى إحدى الصحف، عن ضرورة البحث عن آلية لتسليم البشير إلى المحكمة الدولية، وفي ذلك أيضا كما يبدو، حثٌ منه للذين منوط بهم أمرُ ذلك التسليم، بالإسراع في خطواته. ثم قال السيد الصادق في تصريح لقناة الجزيرة عن ذلك الانقلاب الذي أطاح بحكمه، وهذا من نصٌ قوله: “هذه جريمة، جريمة القرن، لأن الذين دبروا هذا الانقلاب المشؤوم أولا شوهوا الإسلام وثانيا مزقوا السودان ودمروا معايشهم، فإذن القضية كبيرة جداً وأنا أرجو أن يكون التحقيق فيها شاملا والمحاكمة فيها عادلة، وأن ينال كل من قام بهذا العمل…لأن في القصاص حياة يا أولي الالباب” هذا نص قوله. واستشهادُه بالآية الكريمة، هو طلب منه لتطبيق ما دلت عليه فيهم، وهو القصاصُ أي القتل ليس غيره. فهو يريد كما قال محاكمةً عادلة للذين قاموا بالانقلاب، ثم يقرر هو لتلك المحكمة بأن تكون نتيجة محاكمتها (العادلة) القصاص، الذي هو القتل. ثم جاء في إحدى وكالات الأخبار أن حزب الأمة سلم طلبا رسميا لوزير العدل يدعو فيه إلى تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية.

لم يكن مبتدأ:

إن انقلاب 89 هذا، الذي تجري فيه التحقيقات، بحجة أنه قوض الحكم الدستوري في البلاد، لم يكن مُبتَدأَ سلسلةِ الانقلابات العسكرية التي شهدتها الحياة السياسية السودانية. والحقيقة المرة التي يصعب قولُها وقبولُها في الجو الحالي ذي الاتجاه الواحد في السودان، هي أنه لولا ذلك الانقلاب، الذي يُحقق مع قادته الآن، لاجتاح جون قرنق الخرطوم كما هدد هو أكثر من مرة، ولكان القتلُ الذي سترتكبه قواتُه الغازية ليس قتلَ قِصاصٍ، فرداً بفرد، وإنما سيكون مذبحةً مروعة، تكون قصرت عنها بكثير مذبحةُ رواندا في عام 1994، التي قُتل فيها ما يفوق ثمانمئة ألف شخص (800,000).وسيكون أولَ القتلى بلا ريب رجالاتُ الصف الأول من السياسيين في الخرطوم، على مختلف مشاربهم، وأولهم أعضاء حكومة السيد الصادق، الذي كان سيكون هو في مقدمتهم قتلاً وتمثيلا بهم، ولأغتصب الغزاةُ ملايين النساء. ولا سيما أنه نُسب إليه القول إنه سيدخل الخرطوم فاتحاً بالموسيقي العسكرية كما دخل موسفني كمبالا ولكن ذلك لم يحدث ولله الحمد. إن الذي أغرى قرنق على ذلك الوعيد، هو ما رآه من الضعف البين لحكومة السيد الصادق، ضعف اقتصادي واضح وضعف أمني داخلي أدى إلى كثير من الانفلات المسلكي المتكرر من انصاره في العاصمة الخرطوم، وفوق ذلك كالضعف العسكري، الذي تعكس صداه إذاعة جون قرنق التي تبث من خارج السودان والتي يلتقطها الناس في السودان، وذلك لفقر الجيش السوداني المدقع في مجال التسليح الذي كان ركنَ مذكرة الجيش التي قدمها إلى رئيس الوزراء السيد الصادق المهدى يشكو فيها من هذه الحالة، أمام قوات قرنق التي كانت تتلقى أحدث أنواع الاسلحة من الغرب والشرق على السواء. وهذا موضوع سأتناوله في مقال لاحق إن شاء الله تعالى.

العدالة:

ربما يُقال إن هذه التحقيقات التي تجريها حكومة الثورة مع الإنقاذيين عن انقلابهم، تجري وَفق أحد شعارات الثورة وهو(العدالة)، بسبب تقويضهم النظام الدستوري، وإن جرم الإطاحة بالنظام الدستوري عند حكومة الثورة جرمٌ لا يسقط بالتقادم، حيث تطوي عدالتها السنين القهقرى، فتحاسب عليه وقد وقع قبل ثلاثين عاما. ولعل مما يذكر الناسُ في السودان، أن حزب السيد الصادق المهدي وهو حزب الأمة، هو أولُ حزبٍ سنَّ سُنةَ الانقلابات العسكرية على النظام الدستوري في السودان. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1958، وفي جو اضطرابٍ سياسي، أوشك فيه الاتحاديون على العودة إلى الحكم، مُقصين عنه حكومةَ حزب الأمة، التي كان يترأسها آنذاك السيد عبد الله خليل، فأيقن عبد الله خليل بذلك ــ كما تواترت الروايات ــ فتقدم إلى قائد عام الجيش، الفريق إبراهيم عبود، طالباً منه استلام السلطة في البلاد، مقوضا بذلك النظام الدستوري، وحارماً بذلك الاتحاديين من العودة إلى الحكم. فاستلم الفريق عبود السلطة، فأوقف العمل بالدستور، وألغى البرلمان، وقضى على نشاط الأحزاب السياسية، وكان ذلك أولَ انقلاب عسكري في السودان على نظام برلماني منتخب، أُطلق عليه آنذاك تعبير(التسليم والتسلم) كناية عن الطريقة التي حدث بها. وإن قال قائل إن تلك خطوة قام بها عبد الله خليل منفرداً، رُد عليه بأن ذلك لا يستقيم عقلا ومنطقا، إذ عبد الله خليل كان الرجل التنفيذي الأول في الحزب، ولا يُعقل أن يُقدِم على تلك الخطوة الكبيرة، بمنْأىً عن الحزب الذي وضعه على قمة السلطة في البلاد. إنه انقلاب عسكري كامل على نظام ديمقراطي، وإن اختلفتِ الوسائل التي جاء بها ما تلاه من انقلابات عسكرية. أفلا يُعتبر ذلك جرماً في نظر حكومة الثورة، الحريصة الحرصَ كلَه على معاقبة من أطاحوا بالنظام الدستوري، مما جعلها تحاكم على انقلاب وإن تطاولت به الأعوام؟ فإن كان ذلك كذلك، ألا ترى أنه يتحتم عليها التحقيقُ مع حزب الأمة إعمالا لمبدأ المحاسبة على ذلك الجرم الذي لا يسقط بالتقادم وهو الإطاحة بالنظام الدستوري؟

انقلاب 1969

في مايو/أيار من عام 1969 كما هو معروف، دبر الشيوعيون والقوميون العرب انقلاباً بقيادة العقيد آنذاك جعفر نميري، على الديمقراطية الثانية، وكان رئيس الوزراء آنذاك كذلك السيد الصادق المهدي. وحكم البلاد ما سُمي نظام مايو لمدة ستة عشر عاما، فما رأيُ حكومة الثورة في تلك الديمقراطية الثانية المُطاح بها عسكرياً، طالما أن عدالتها كما ذكرتُ تطوي السنين القهقرى؟ وما هو رأيُ السيد الصادق نفسه في ذلك؟ أهو جرم سقط بالتقادم، أم لم يسقط بعدُ، ولذا يستحق تحقيقاً فيه مع من ارتكبوه؟ وإن كان ذلك كذلك، فلماذا لم يطالب هو حكومة الثورة بالتحقيق فيه بأثر رجعي كما تفعل هي مع رجالات الإنقاذ؟ وكان على حكومة الثورة طالما هي ظهيرٌ للنظام الدستوري وبأثر رجعي، ألا تستثني انقلابا من انقلاب، فتشكل لكل انقلاب عسكري دائرة تحقق مع من قاموا به، وبذلك تكن قد طبقت العدالة التي هي أحد شعارات الثورة، وأوفت النظام الدستوري حقه بالانتصار له، لا سيما أن انقلاب 1969 وقع على رئيس الوزراء نفسه، وفي القرن نفسه الذي سمى فيه انقلاب الإنقاذ جريمة القرن؟ أم أن عدالة حكومة الثورة هنا تقصُــر عن أولئك الذين قاموا بذينك الانقلابين قبل الإنقاذ، إذ الأول من صنيع حزب رئيس الوزراء نفسه، والثاني من قاموا به فهم شركاء في نظام الحكم القائم الآن، فلا تمتد سلطة الحكومة إلى التحقيق أولئك وهؤلاء، ويظل تحقيقها وقفاً على الإسلاميين فحسب وقد فُصل عليهم تفصيلا؟

أما إن قالت حكومة الثورة إن انقلاب الإسلاميين في عام 89 مع إطاحته بالنظام الدستوري، سُفكت فيه دماءٌ كثيرة، ولذا وجب التحقيق معهم فيه، فيكون الرد عليها بأنه ليس نظام الإسلاميين فحسب الذي استن سنة سفك الدماء في البلاد فقد سبقهم بذلك نظام مايو/أيار  بزعامة الشيوعيين، فقد سفكوا فيه دماء كثيرة في انقلابهم على ذلك النظام الديمقراطي عام 1969 المشار إليه آنفا، ومن ذلك تنكيلهم بالأنصار، مما أدى إلى مجزرة الجزيرة أبا التي قُصفت بالطائرات عصر الجمعة 27 مارس/آذار 1970م، فقتل في ذلك حوالي ثلاثة آلاف شخص، وأصيبت آلاف كثيرة، ولوحِق الإمام الهادي وهو منسحب فقتل. وفي يوم الأحد 29 من شهر مارس/آذار عام 1970م نفسه قصفت دباباتُ نظام مايو/أيار مسجد الهجرة بحي ودنوباوي في أم درمان، بتدبير وتفكير قادة الحزب الشيوعي، الذي كان يمثل الذراع السياسية للنظام في ذلك الوقت، فسقط المئاتُ قتلى وجرحى من شباب وشيوخ الأنصار. ألا يستحق أولئك الذين اقترفوا ذلك الجرم التحقيق معهم، وقد أطاحوا بالديمقراطية وسفكوا الدماء قبل الإنقاذ؟ أم إن ذلك أمرٌ يجري على الإسلاميين فقط، الذين ما قامت الثورة إلا للقضاء عليهم، كما قال وكيل أول وزارة الثقافة والإعلام الحالي رشيد سعيد؟ حيث قال:” إن الثورة قامت ضد الإخوان المسلمين وضد التيارات الإسلامية وضد نظام ينادي بالدولة الإسلامية”. هذا قول الرشيد سعيد، أما قول الله تعلى فهو:

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.) 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه