عدالة المنتصر !

 

الأحد 16 يونيو الجاري، وهو اليوم السابق على الوفاة المفاجئة للرئيس المصري المعزول محمد مرسي التي جرت الإثنين 17 الجاري، نُشرت أول صورة للرئيس السوداني المعزول أيضاً عمر البشير، (أُطيح به في 11 أبريل الماضي)، وظهر باللباس السوداني التقليدي، (الجلباب الأبيض والعمامة)، خلال اقتياده إلى نيابة مكافحة الفساد للتحقيق.

انتشرت صورة البشير، وخبر التحقيق معه على نطاق واسع، وقد علقت بأنها لا تعني عندي شيئاً كثيراً، فقد أثبتت تجربة الربيع العربي أن الأنظمة التي تمت الثورة عليها أقوي من الثورة، خرجت منها سليمة، واستعادت نفسها، وصارت أكثر شراسة مما كانت، فقد تعلمت الدرس، بينما لم يستوعب الثوار والمعارضون أي درس.

 لا محاسبة حقيقية لعتاة الاستبداد

ومسألة جلب الرؤساء للتحقيق معهم، وظهورهم في أقفاص المحاكم لم يسفر عن إقرار عدالة تاريخية تقطع دابر الاستبداد والفساد، ويتم الاستدلال بها على التغيير الجذري في بنية منظومة حكم الفرد العربية بوجهيها، الجمهوري الانتخابي الشكلي، والملكي الوراثي التقليدي.

بن علي(تونس)، ومبارك(مصر)، وصالح (اليمن – قبل مقتله)، والأسد(سوريا)، لم يتعرضوا لمحاسبة حقيقية، ولو كان القذافي حياً وخارج الحكم لكان الآن يتّنعم، سواء بقي في ليبيا، أو غادرها إلى منفى خارجي، وبوتفليقة بالجزائر يتلقى علاجه، والبشير يوماً ما سيكون خارج السجن.

وقد عايشنا فصول محاكمة مبارك، وانبهرنا بما يجري، وكتبنا المعلقات عن اللحظات التاريخية، ثم كان ذلك صرحاً من خيال فهوى، صحيح أن المحاكمات استغرقت جلسات طويلة مرهقة، لكن انتهى الأمر إلى تبرئته من أهم قضية، وهي دماء ثوار 25 يناير، وحكم السجن الوحيد كان في قضية فساد مالي لا تساوي شيئاً، فأين قضايا الفساد السياسي طوال 30 عاماً؟، لم تكن هناك قضية بهذا المعنى، ولم تحاكمه الثورة لا في مرحلة امتلاكها التأثير خلال حكم المجلس العسكري، ولا في مرحلة توليها الحكم مع الرئيس الراحل محمد مرسي.

الرئيس المنتخب المسجون

وبسبب هذه المفارقة كتبت قبل ساعات من رحيل مرسي، أنه الرئيس الوحيد المسجون فعلاً، سجناً حقيقياً، والذي صدرت عليه أحكام وقضايا بحاجة لأكثر من عمره حتى يقضيها رغم أنه (حكم، ولم يحكم) لمدة عام واحد فقط.

إذن، المستبدون الذين حكموا سنوات طويلة تجاوزت في أقصاها 40 عاماً، وفي أقلها 24 عاماً، لم يُحاسبوا أو يُعاقبوا، أما من حكم عاماً واحداً فقط، ظل يواجه قضايا، ويتلقى أحكاماً طويلة مشددة طوال 6 سنوات من الحبس الانفرادي، ومات ولم تنته القضايا، ولم يُسدل الستار على المحاكمات، رغم أنه الرئيس المدني الوحيد المنتخب ديمقراطياً في مصر طوال عمر هذا البلد.

ومن المفارقات أيضاً أن هذه الانتخابات التي جاءت بـ مرسي رئيساً أجريت والبلاد يحكمها المجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي، مما يمنع أي حديث عن عدم نزاهتها، وومما يجعلها وما سبقها من انتخابات برلمانية، واستفتاء على الإعلان الدستوري محطات ديمقراطية تُحسب لهذا المجلس، وتؤكد أن مصر وشعبها مهيئان لديمقراطية تنافسية حقيقية.

الرئيس المؤهل للحكم

وقبل ساعات من الوفاة كان هناك جدال بشأن الرئيس المؤهل للحكم، والإشارة كانت موجهة لتجربة مرسي في عامها الوحيد، وفي التحليل السياسي المنهجي يصعب الحكم على التجربة خلال هذا الوقت القصير، كون الرئيس يجب أن يكون مؤهلاً، سواء أكان مرسي، أم غيره، هو موضوع خارج جوهر فكرة الممارسة السياسية في الديمقراطيات، فليس مطلوباً من المترشح للقيادة أن يكون خبيراً في الحكم – لا يوجد معهد بعد لتلقي دورات لرئاسة دولة أو حكومة – إنما يجب توفر مؤهلات سياسية مناسبة، وممارسات عملية في بيئة منفتحة تتيح للكادر السياسي التفاعل مع الناس ليكتسب بعض الخبرة، ثم يعرض نفسه بأفكاره النظرية، أو ببرنامج حزبه على الناخبين، وعندما يفوز بثقتهم تكون التجربة العملية بدأت، وعليه أن يجيد تحويل الأفكار والوعود إلى مشروعات وقرارات، فإما ينجح وتتجدد الثقة فيه، أو يفشل ويتغير.

هل كان سيباستيان كورتز ابن الـ 31 عاماً خبيراً حتى يكون جديراً بقيادة النمسا، أو جاسيندا إردرن ذات الـ 37 عاماً، وهي تشكل حكومة نيوزيلندا، وماكرون الذي فاز برئاسة فرنسا وعمره 39 عاماً دون خبرة، وفي أمريكا جاء ترمب من عالم المال والعقارات وخبرته صفرية في الحياة السياسية، وقبل أسابيع فاز فلاديمير زيلينكسي وهو ممثل كوميدي برئاسة أوكرانيا، وفي سلوفاكيا فازت المحامية زوزانا تشابوتوفا وهي لا علاقة لها بالسياسة والحكم بالرئاسة، وخذ من ذلك الكثير في العالم الحر.

وبمنطق الديمقراطيات فإن مرسي كان مؤهلاً للحكم مثل حمدين صباحي وعمرو موسى وشفيق وكل المترشحين في 2012، وقد تصورنا أن فكرة الرئيس الفرعون أو نصف الإله قد انتهت بسقوط مبارك، لكن يبدو أنها متجذرة في عمق العقل المصري، وفي دهاليز وتلافيف الدولة القديمة العميقة.

الإخفاق في التعامل مع الدولة “الغويطة”

لكن يمكن أن يُقال هنا إن الإخوان كانوا متسرعين في الوصول للرئاسة، ولم يكونوا مستعدين لها بشكل كاف، أو بقادرين على التعامل مع الدولة “الغويطة” ومؤسساتها وتعقيداتها خاصة وأنهم قادمون من منطقة معتمة كلها شكوك وفقدان ثقة وتاريخ طويل من الأزمات والملاحقات والسجون والإعدامات.

 لم يكن الإخوان حزباً معارضاً طبيعياً وعادياً مثل الوفد حتى يكون مقبولاً في الحكم، بل هم جماعة تميل للعمل السري المغلق، وكانت تتحرك وفق تفاهمات سرية لها سقف محدد مع نظام السادات ثم مبارك.

وإذا كانت الثورة والديمقراطية أتاحت لهم الترشح، ثم الفوز، فإن هذا لم يكن يعني أن الرئيس المنتمي للإخوان سيكون بقادر على الحكم، رغم أن مرسي حاول التطبيع مع كل أركان ومفاصل ورجال الدولة والنظام القديم، لكن ابتلاعه لم يكن سهلاً، وإذا كان شركاؤه في المعارضة قبل وبعد يناير خرجوا عليه وصاروا معارضة شرسة له، فهل الدولة وأجهزتها ومؤسساتها ستكون أكثر حنواً عليه ممن قاسموه دائرة التضييق طوال سنوات مبارك؟!

إشكالية رئاسة .. لا مؤهلات رئيس

هنا الحديث عن إشكالية رئاسة الإخوان، لا عن مؤهلات الرئيس، فالرئاسة ليست كيمياء، ولن تكون، إنما رئاسة الإخوان تحديداً كانت هي المعادلة الكيمائية المعقدة التي لم يستطيعوا ضبطها فحدث الانفجار، وجرى كل ما جرى حتى وفاة مرسي، ولا يزال تأثير الانفجار مستمراً وإلى أن يشاء الله.
مع هذا أتصور أن مرسي إذا كان غادر الحكم عبر الصندوق كما دخله، فلم تكن التكلفة على البلاد والإخوان ستكون كما هي اليوم، ولكان أصبح رئيساً عادياً حضوره مثل رحيله، ولما أحدث اعتقاله وسجنه ووفاته ردود الأفعال الواسعة، لكنه صراع السلطة، وانحدار العقل النخبوي، وسوء تقدير النتائج لدى التيارات السياسية والثورية، الإخوان والإسلاميين، والمعارضة بجميع أطيافها.

 هل الوفاة صادمة؟!

ووفاة مرسي لم تكن صادمة لي بطبيعة التقدم في العمر، والبقاء في السجن في ظروف تبدو قاسية لم يحدث قليل منها مع مبارك، وكان من مصلحة سجانيه ترتيب زيارات دورية له تشمل أسرته، ومحامييه، ووفود حقوقية محلية ودولية، وكل من يريد من الرسميين أو المنظمات العالمية.

 وواضح أنه كان مطلوب أن يبقى معزولاً عن العالم حتى وهو في القفص الزجاجي الذي لا يخرج منه الصوت إلا إذا تم تشغيل الميكرفون بأمر القاضي.

 وبالإشارة إلى الأمراض التي كان يعاني فإن وفاته لا تكون غريبة، وهي لم تكن مستبعدة في أي وقت، وكان أقصى ما ذهبت إليه في تفكيري من سيناريو متفاءل أنه في إطار حل سياسي واتفاق مصالحة وطنية يمكن أن يغادر إلى منفى خارجي بشروط.

وهذا التوقع كان قبل سنوات، ثم وضح أن السلطة باتت تتشدد في رفض أي حلول أو تفاهمات، والإخوان أيضاً اتسموا بالجمود والتشدد، وعندما كانت تصدر إشارات بمصالحة كانت كتائب الإعلام تنبري بالرفض فوراً، وهي لا تتحدث من نفسها، إنما بتوجيهات.

 والمسألة تعقدت أكثر بعد مقاطعة قطر، والاصطفافات الإقليمية، وبروز توجه سياسي حاد لدى القاهرة والرياض وأبوظبي بمحاولة اسئتصال الإخوان والتيارات الإسلامية المرتبطة بهم، بدعم من ترمب الذي يختلف عن أوباما في رؤيته لتيارات الإسلام السياسي، فهو وبحكم فقدانه الخبرة والفكرة السياسية يستجيب للأصوليات المتطرفة مسيحية إنجيلية وصهيونية يهودية والتي تضع إسرائيل فوق أي اعتبارات أخرى، وتدرك أن الإسلاميين في الحكم لن يكونوا ودودين معها، والخلاص منهم ودعم النظم القائمة هو الأفضل لها وللمصالح الأمريكية بالمنطقة.

السجون مأوى الحكام على مر التاريخ

 أن يموت مرسي في السجن، لا يعد غريباً، إذ إن السجون شهدت وفاة رؤساء وقادة ومناضلين ورفقاء كثيرين في عمليات إطاحة وعزل وتصفيات وانقلابات في أنظمة حكم الفرد في العالم.

 ومنذ بدأ التاريخ وتشكل كيانات جغرافية والصراع على السلطة فيها محتدم، وعدالة المنتصر هي الغالبة، بغض النظر عن طبيعة ونوعية هذه العدالة، وهي تفتقد للعدل والرحمة مع الخصم المنهزم، وفيها تكون نهايته مهما تنوعت وسائلها.

 والسجون والمنافي تزخر بقصص رهيبة لنهايات حكام وقادة، فقط الديمقراطية الحديثة أطاحت بسوءة عدالة المنتصر مع كل ما أطاحت به من أوجه الطغيان السياسي والاجتماعي والديني، وكرست دولة القانون حيث العدالة العمياء للجميع، ولا عدالة حصرية فيها للمنتصر، ولهذا لن تجد رئيساً منتخباً في سجون الديمقراطيات، وإذا وُجد فإن العدالة ستكون صارمة، والحقوق ستكون متوفرة، والاقتناع بالأحكام لن يكون محل شك.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه