عبد القادر عبد اللي يكتب:ماذا بعد العدالة والتنمية في تركيا؟

“سؤال ماذا جرى لحزب الوطن الأم؟” أو غيره من تلك الأحزاب التي حققت نجاحات كبرى في الحياة السياسية التركية، يمكن أن يستخدم للدالة على أن حزب العدالة والتنمية أيضاً يمكن أن يذوب. يتبع

عبد القادر عبد اللي*

 
لفت نظري منذ أيام أحد الأصدقاء بسؤال: “ماذا جرى لحزب الطريق القويم؟”.

في الحقيقة أن هذا السؤال غير المتداول يحمل أهمية كبيرة في قراءة المشهد السياسي التركي.

على المنوال نفسه يمكن أن نسأل: “ماذا جرى للحزب الديمقراطي الذي حكم بين عامي 1950 و1960، وأسقط بانقلاب عسكري، وأُعدم زعيمه عدنان مندريس؟” و”ماذا جرى لحزب العدالة الذي برز في عام 1961، واشتهر زعيمه سليمان دميريل بقبعة الشابوه، وحاز على الأغلبية في عام 1965؟”، و”ماذا جرى لحزب الوطن الأم الذي حكم بين 1983 و1991 بزعامة طورغوت أوزال التاريخية؟”
.
مع انطلاق حملة الانتخابات البرلمانية التركية المبكرة في هذه الأيام تزدان شوارع المدن والبلدات برايات الأحزاب. وتعود أحزاب منسية تماماً إلى الظهور، حتى إن المرء يستغرب بعضها في حالة تشبه الحلم. فهذا الشعار، وهذه الراية يعرفها من مكان ما، ولكنه لا يذكر لأول وهلة. وكأن تلك الشعارات تنبعث من أعماق التاريخ..

لعل من أهم الخصوصيات السياسية التركية هي ذوبان الأحزاب، وبقائها مجرد لوحة على بناء. فالحزب الديمقراطي ما زال موجوداً، وبقية الأحزاب المذكورة أعلاه إضافة إلى أحزاب حظيت في يوم من الأيام بحضور فاعل في الساحة السياسية.

تشير استطلاعات الرأي العام في تركيا إلى ما يشبه الثبات في نتائج الانتخابات القادمة، بمعنى آخر، لا أحد يتوقع تغييراً كبيراً، أو مفاجأة مختلفة عن نتائج انتخابات السابع من يونيو/حزيران الماضي. فهناك أحزب تفقد بضع نقاط، وأخرى تكسب بضع نقط، علماً أن كسب بضع نقط إضافية لحزب العدالة والتنمية يمكن أن يكسر الجليد السياسي الراهن، وتؤهله لتشكيل حكومة وحده.

من جهة أخرى فإن المتوسط العام لاستطلاعات الرأي يظهر بأن إمكانية تشكيل حكومة لا يشارك فيها حزب العدالة والتنمية يكاد أن يكون مستحيلاً. لأن هذه الإمكانية محصورة بائتلاف بين حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية، أو بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، واستطلاعات الرأي لا تشير إلى إمكانية حصول حزبين من هذه الأحزاب على نسبة خمسين بالمائة زائد واحد من المقاعد البرلمانية النسبة التي يفرضها الدستور من أجل تشكيل حكومة.

في الحقيقة أن “سؤال ماذا جرى لحزب الوطن الأمن؟” أو غيره من تلك الأحزاب التي حققت نجاحات كبرى في الحياة السياسية التركية، يمكن أن يستخدم للدالة على أن حزب العدالة والتنمية أيضاً يمكن أن يذوب، ويبقى لوحة فوق بناء كما جرى لأحزاب كبرى غيره. وخدمة لهذه الدعاية تطرح احتمالات انقسامات في حزب العدالة والتنمية، وذوبان هذا الحزب بشكل نهائي.

عندما تطرح فرضيات من هذا النوع، لابد من طرح الفرضيات المعاكسة، أو الأسئلة الواقعية المباشرة: “ما هو بديل حزب العدالة والتنمية في تركيا؟” أو “ماذا بعد حزب العدالة والتنمية في تركيا؟”
.
بعد تحول تركيا إلى التعددية السياسية، وسقوط حزب الشعب الجمهوري الذي كان قائداً للدولة والمجتمع عام 1950، لم يستطع هذا الحزب في أي مرة الحصول على أغلبية برلمانية بشكل منفرد، ولعل أفضل نتيجة حققها كانت عام 1977 بزعامة بولند أجاويد، وكان بحاجة لثلاثة عشر مقعداً فقط في البرلمان لتشكيل حكومة بشكل منفرد. وبقيت أصواته في الانتخابات الأخرى في حدود 25% تزيد أو تنقص بين دورة وأخرى.

حزب الحركة القومية (الذئاب الغبراء) هو حزب أيديولوجي يُصنف في اليمين المتطرف، وأصواته أيضاً محدودة بمتوسط 16-17 في الانتخابات العامة كلها تقريباً.

وحزب الشعوب الديمقراطي دخل الانتخابات أول مرة هذا العام، وحصل 13,1%، وحتى زعيمه صلاح الدين دميرطاش لا يتوقع حصوله على النسبة ذاتها.

بمعنى آخر، ليس ثمة بديل سياسي اليوم في تركيا يحل محل حزب العدالة والتنمية. ولكن إذا عدنا إلى السؤال المفترض: “أين تلك الأحزاب التي حكمت في تركيا، وطبعت مراحل من تاريخها بطابعها؟ ولماذا لا يكون مصير حزب العدالة والتنمية كمصيرها؟”

في الحقيقة أن هذا السؤال الافتراضي نفسه يحمل الإجابة في طياته. فلو عدنا إلى النقطة المشتركة أو النهج السياسي المشترك لكل من تلك الأحزاب التي حكمت، ثم ذابت، نجد أنها كلها تنتمي إلى تيار “يمين الوسط” ويمين الوسط في بلد إسلامي من الطبيعي أن يكون عموده الفقري هو الإسلام السياسي. وإذا كانت هذه الخصوصية قد برزت بقوة في الحزب الديمقراطي الذي انتهى نهاية تراجيدية عام 1960، فهي موجودة في أحزاب العدالة والوطن الأم، وكان قورقوت أوزال شقيق زعيم الوطن الأم أحد أعمدة تيار أربكان الإسلامي بمختلف تسمياته، وشكّل المحافظون –أي الإسلاميون- النسبة العظمى من ناخبي هذا الحزب.

طالما كرر رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان بأن حزبه هو امتداد للحزب الديمقراطي، وحزب الوطن الأم، وبغض النظر عن مدى صحة هذه المقولة، فإن اليمين الوسط هو الذي حكم تركيا على الأغلب منذ تحولها إلى التعددية السياسية إلى الآن باستثناء فترات قصيرة حكم فيها بولند أجاويد بمشاركة اليمين أو اليمين الوسط.
تشير خريطة النتائج الانتخابية أيضاً إلى أن حزب الشعب الجمهوري يحظى بغالبية في المحافظات الساحلية جنوب غرب تركيا، وأن حزب الشعوب الديمقراطي يفوز في المحافظات الكردية جنوب شرق الأناضول، بينما تمتد خريطة الأغلبية لحزب العدالة والتنمية على بقية الأناضول.

نعود إلى السؤال الرئيس: “ماذا بعد العدالة والتنمية؟” لاشك أنه العدالة والتنمية، ويمكن أن يكون باسم جديد وزعيم جديد، ولكن ما ثبت خلال تاريخ الانتخابات التركية كلها هو أن يمين الوسط هو التيار الأكثر ترجيحاً في لدى الناخب التركي.
_________________________

*باحب سوري متخصص في الشأن التركي

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه