عبد القادر عبد اللي: اللاجئون السوريون والصراع التركي

حين جئت إلى تركيا،قصدت مديرية أمن أنقرة لاستخراج تذكرة إقامة، فطلب مني الشرطي كفيلاً دخله السنوي كبير جداً

عبد القادر عبد اللي*

 
برزت قضية اللاجئين السوريين في تركيا كمادة تتناقلها وسائل الإعلام العالمية. وكان السوريون يشكرون الاستضافة التركية على مدى أربعة أعوام، فما الذي حصل ليغيروا مواقفهم من هذا البلد؟ وبالمناسبة، بما أن الحدود البرية مغلقة، فإن غالبية اللاجئين إلى تركيا في السنة الأخيرة هم من أنصار النظام القادمين من مطار بيروت الدولي.
حين جئت إلى تركيا، وأنا الذي أتردد عليها، وأقيم فيها منذ خمسة وثلاثين عاماً، قصدت مديرية أمن أنقرة لاستخراج تذكرة إقامة، فطلب مني الشرطي كفيلاً دخله السنوي كبير جداً، يتعهد هذا الكفيل لدى الكاتب بالعدل بالإنفاق على أسرتي. ومواصفات هذا الكفيل لا تتوفر في اثنين بالمائة من المواطنين الأتراك. استغربت الأمر، ودخلت إلى نائبة مدير قسم الأجانب في مديرية الأمن، ونقلت لها ما قلته للشرطي، وأبرزت لها دفتري المصرفي، وأن لدي ما يكفيني لحياة كريمة لمدة عامين، وأنا أطلب إقامة لمدة عام. استغربت، وقالت لي لو كنت مواطناً لأي دولة في العالم فبهذه الوثائق يمكنك أن تحصل على الإقامة، وهي من حقك بموجب القانون، ولكنها فشلت بمساعدتي. وذهبتُ، واستخرجت الإقامة بسهولة كبرى من مديرية أمن اسطنبول يومئذ دون كفيل بالطبع، ودون السؤال حتى عن مصدر دخلي…
تركيا ليست بلداً مركزياً ديكتاتورياً إذا أصدرت الحكومة قراراً، تنفذه الدوائر الحكومية كافة. فأنصار الأحزاب السياسية المعارضة لديهم ثقل في الدولة، ويستطيعون عرقلة أي قرار حكومي، ويمكن أن تكون تلك العرقلة قانونية، أو غير قانونية. وإذا كان ما عشته خير مثال على العرقلة غير القانونية، فلأضرب مثالاً على العرقلة القانونية: عندما أصدرت الحكومية التركية سنة 2012 “تعميماً” على الجامعات التركية لإعفاء الطلاب السوريين من الرسوم الجامعية التي تأخذها من الطلاب الأجانب (الأتراك لا يدفعون رسوماً)، هناك جامعات وافقت، ونفذت، وهناك جامعات لم توافق، وبقيت تتقاضى رسوماً. والسند القانوني هو أن الجامعة مؤسسة مستقلة، لديها هامش من استقلالية القرار، ويمكنها ألا تنفذ تعميم الحكومة بموجب قانون استقلاليتها لأن الأمر يتعلق بالنقود، فتستطيع الجامعة أن تقول للحكومة إذا أردت أن تعفيهم، فادفعي رسومهم.
من جهة أخرى إن التحول الديمقراطي الذي بدأ مع حكومة طورغوت أوزال في أواسط الثمانينيات، وتباطأ التسعينات من القرن الماضي، ثم عاد ليتسارع بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، لم يكتمل بعد، ومازال للأحزاب التقليدية أنصار في مؤسسات الدولة، ولعل تركيا كانت ستشهد انقلاباً عسكرياً يعيد الدكتاتورية إليها لولا ارتباط غالبية مؤسساتها بكلٍ من مؤسسات الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي. وطالما أن التحول الديمقراطي لم يكتمل بعد، فإن هناك مراكز قوى عديدة في تركيا تتصارع، وتتنافس، ويمكن أن تعرقل قرارات الحكومة وتعميماتها ما استطاعت.
في هذا الصراع والتنافس السياسي يعتبر اللاجئ السوري الحلقة الأضعف، وهو المادة الأكثر استخداماً في الصراع السياسي. ولعل البعض يستغرب أن أفعال النازيين الجدد في أوربا ضد الأجانب تقوم بها في تركيا منظمات تسمي نفسها “شيوعية”. فالشيوعيون الأتراك بغالبيتهم المطلقة يعتبرون السوري “داعش” كما تسميه وسائل الإعلام الإيرانية والروسية والسورية التابعة للنظام، وهكذا فإن محاربة السوري واجب أممي، وضربه في الشارع يعتبر انتصاراً على الإمبريالية العالمية.
من جهة أخرى، فإن أنصار حزب الحركة القومية يولون اهتمامهم للتركمان فقط، ولا يهتمون بالآخرين نهائياً. كما أن هناك جماعة فتح الله غولان التي كانت تتعاطف مع السوريين في البداية، ولكن بعد انفجار الخلاف بينها وبين الحكومة التركية، رفعت يدها، واتخذت على الأغلب موقفاً محايداً منهم.
حزب الشعوب الديمقراطية (الكردي) نادراً ما يستخدم قضية اللاجئين السوريين في السياسة الداخلية التركية، وليس لأنصاره موقف موحد أيضاً من اللاجئين السوريين. فاللاجئون الأكراد يحظون بالرعاية والدعم والتعاطف من أنصار هذا الحزب، وخاصة في المناطق الكردية، وإذا كان موقف أنصار الشعوب الديمقراطي حيادياً في أغلب الأحيان، ومتذمراً في أحيان أخرى، فهناك جزء منهم يمارس ما تمارسه الأحزاب التي تطلق على نفسها اسم “الشيوعية” إضافة إلى أن هناك جزءاً مهماً من أكراد الجمهورية التركية ينتمون طائفياً إلى العلوية، وهؤلاء ألد أعداء السوريين، ويشاركون بضربهم أحياناً مع أشقائهم “الشيوعيين” باعتبار أنهم “دواعش”.
حزب الشعب الجمهوري هو حزب المعارضة الأكبر، وعلى الرغم من موقف قيادة هذا الحزب السلبية جداً من اللاجئين السوريين، وقد قدم رئيسه كمال قلتشدار أوغلو (كردي علوي) وعداً انتخابياً بأنه سيطردهم في حال فوزه بالانتخابات الماضية التي جرت في السابع من حزيران/ يونيو، إلا أن أنصاره لا ينظرون نظرة واحدة للسوريين. فحجاب السورية بالنسبة لهذا الحزب هي عقدة العقد، علماً أن الشادور الإيراني الأسود الذي يشبه العباءة الداعشية لا يخدش نظر أنظار هذا الحزب، ويعتبر تقدمياً جداً لا يختلف عن الميني جيب والشورت كيلوت. فعندما تكون السورية غير محجبة، تكون مقبولة لدى أنصاره، وحتى عندما تقول سورية غير محجبة لأحد أنصار هذا الحزب: “أنا سورية!” يفتح فهمه كالمغارة دهشة، ويستنكر قائلاً: “لا، أنت لست سورية!” ويبدي تعاطفاً كبيراً معها، ولكنه عندما يعرف أنها ضد الأسد، تختلف النظرة.
من جهة أخرى فإن أكبر شركة إعلامية قابضة في تركيا هي قريبة من هذا الحزب، لذلك فإن تشويه سمعة السوريين بالدعارة والسرقات والجريمة تأخذها على عاتقها المؤسسات القريبة من هذا الحزب.
بقي حزب العدالة والتنمية الحاكم، وهو يبدي تعاطفاً مع السوريين، ولكن الدولة التركية بحسب اتفاقية اللجوء تقدم الخيام وما تتطلب هذه الخيام من احتياجات. وبعد أن طال التشرد السوري، وفقد أكثر أبناء الطبقة الوسطى مدخراتهم، لم تعد تركيا تناسبهم لأن ظروف العمل صعبة فيها. دخل الفرد جيد في تركيا بالنسبة إلى بنية الأسرة التركية المؤلفة من أب وأم يعملان ولديهما ولد واحد أو ولدين، ولكن دخول السوري سوق العمل التركي، وإعالة عدد كبير من الأفراد يجعل ظروفه غاية في الصعوبة.
وهكذا فإن السوري محكوم في تركيا بالصراع السياسي أولاً، وبالوضع الاقتصادي ثانياً، خاصة أن الظروف الاقتصادية التي شهدتها تركيا خلال السنة الأخيرة، وتراجع قيمة الليرة مقابل الدولار حوالي الثلاثين بالمائة زاد عبء الحياة على السوريين، وهذا ما يدفعهم إلى ركوب قوارب الموت في سبيل الخلاص.

 ____________________________

*كاتب سوري  متخصص في الشؤون التركية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه