عبد الرزاق قيراط يكتب: رؤوس أينعت ولم يحن قطافها

استطاع النظام القائم بقيادة السبسي (الذي أُخرج من غيابات أرشيف بورقيبة) تحويلَ وجهة الرأي العام إلى الاهتمام بقضايا لم تكن من مطالبه الثوريّة.. يتبع.

عبد الرزاق قيراط*
لا يسقط الحكّامُ بالحروب، والدليل ما يحدث في سوريا. ولا تجلب الحروبُ الديمقراطيّةَ، والبرهان موجود في العراق. يسقط النظام أو رأسه بإرادة الشعوب عندما يكون العالم في غفلة. وتونس خير مثال حيث عصفت “ثورة الحريّة الكرامة” بزين العابدين بن علي قبل أن تنتبه العواصم الكبرى، فتراجعَ أولويّاتها وتعدَّ البدائل المناسبة لتضمن استمرار هيمنتها. وعندما فعلت، تدخّلت بطريقة علنيّة في مسار “الانتقال الديمقراطيّ” فاحتضنت سفاراتُ الولايات المتحدة الأمريكيّة وفرنسا وألمانيا عددا كبيرا من الاجتماعات برؤساء الأحزاب الفاعلة والقيادات النقابيّة وكبار الشخصيّات النافذة لإعادة ترتيب البيت التونسيّ على الشاكلة التي تتلاءم  مع مآرب اللوبيّات وأصحاب المصالح في الداخل والخارج، شاكلةِ النظام القديم الذي تسلّمَ السلطة بآليّة “التوافق”. وقد نسفت تلك الكلمة السحريّة مبدأ الاقتراع والتنافس الديمقراطيّ النزيه.

 

استئناف الخضوع


وبلا أدنى مبالغة ولا اعتبار لنظريّة المؤامرة، يمكن القول إنّ النظام في تونس اليوم استأنف خضوعه لأوامر السفارات التي ساعدت على قيامه من جديد. حتّى أنّ وزير الصناعة عارض الحراك الشعبيّ المطالب بالشفافيّة في قطاع الطاقة قائلا إنّ السفراء يتّصلون به يوميا ليعبّروا له عن قلق شديد من تواصل حملة “وينو البترول”. وبإحكام القبضة البوليسيّة، مع ما فعله “الإرهاب المفيد” وما صنعه “الإعلام المضلّل” استطاع النظام القائم في ظلّ حكم “النداء” بقيادة السبسي (الذي أُخرج من غيابات أرشيف بورقيبة) تحويلَ وجهة الرأي العام إلى الاهتمام بقضايا لم تكن من مطالبه الثوريّة العاجلة. فخبَتْ جذوة الاحتجاجات المنادية بالإصلاح، والتوزيع العادل للثروات، والقضاء على الفساد. وحلّت مكانها أصوات المدافعين عن حقوق المثليّين، والمطالبين بتخفيف العقوبات عن مستهلكي الحشيش، وحملات “لله يا محسنين” لمساعدة الدولة بعد إحجامها عن تحمّل مسؤوليّاتها. فلم تتعهّد مؤسساتها بإعادة الهيكلة والإصلاح، ولم تحسّن خدماتها، ولم تعمل على تنمية المناطق المهمّشة حيث انتفض الشباب العاطل مطالبا بالكرامة والعمل رافعا شعار: “العمل استحقاق يا عصابة السرّاق”. 
عاد النظام القديم في تونس بملامحه البوليسيّة المعروفة لحماية نفس العصابات، مثلما عاد في مصر بملامحه العسكريّة المعهودة، ومثلما يصمد الآن في دمشق بفضل حرب أدّت إلى قتل الآلاف وتشريد الملايين، ومثلما يقاوم ليبقى بقوّة السلاح وشبح الفوضى في اليمن وفي ليبيا. وفي سياق التناغم بين الأنظمة الانقلابيّة، حلّ رئيس الحكومة المصريّة إبراهيم محلب ضيفا على تونس (قبل أيام من استقالته)، فخاطبه الحبيب الصيد قائلا: “إنّنا في تونس نتابع باهتمام ما تشهده مصر الشقيقة من نجاحات على مختلف الأصعدة ونبارك في هذا الصدد ما حقّقته من تقدّم على درب التحوّل الديمقراطي استنادا إلى إرادة الشعب المصري الشقيق”.
إنه تصريح كاريكاتوريّ بامتياز. ولكنّ الصيد يعرف ما يقول، وهو لا ينافق أحدا عندما يتحدّث عن “النجاحات والتحوّل الديمقراطيّ وإرادة الشعب المصريّ الشقيق”. لأنّه صادق مع نفسه، ومع ضيفه في كلّ كلمة نطق بها. ذلك أنّ الصيد ومحلب ينتميان إلى نفس الجوقة التي كوّنتها الولايات المتحدة الأمريكيّة وفرنسا لتغرّد على شعوب، مازالت دماؤها الثوريّة لم تجفّ، بعبارات منقلبة على معانيها وعلى الواقع الذي يفنّدها عملا بالقول المأثور: “أنا لا أكذب ولكنْ أتجمّل”.

داعش والكعكة

في أغلب أقطارنا العربيّة مخاض عسير لاستنساخ الأنظمة الاستبداديّة وإعادة تثبيتها بحيث يكون الاستبداد في المرحلة الجديدة مغلّفا بيافطات برّاقة تتحدّث عن الانتخابات الديمقراطيّة الشفافة، وحقوق الإنسان وتحقيق أهداف الثورة.. فالواقع التونسيّ، الذي يمثّل منوالا رئيسيّا لذلك الاستنساخ، يثبت أنه لا فرق بين نظام قديم وجديد في فضاء عربيّ مجزّء لا يملك قراره بيديه. وغاية ما يحدث الآن من نزاعات لا يتعدّى تصفية الحسابات مع أشخاصٍ لا أنظمة. فمن يصدّق أنّ دولة عربيّة “غير ديمقراطيّة” تعمل على مساعدة دولة شقيقة لتعتنق النظام الديمقراطيّ ويصير لشعبها كرامة وحقوق؟!
وبناء عليه، نعتقد أنّ إسقاط النظام في سوريا ليس هدفا لأحد. الخلاف فقط على بشار الأسد. فهو في قلب المعركة للبقاء أو الرحيل. والجميع يسهر جرّاه ويختصم. بينما يدفع الشعب السوريّ ثمنا باهظا من دمائه “الرخيصة”، في عالم لا تحرّكه إلاّ المصالح. فكلّ ما يحدث باسم الدفاع عن الحقوق والحريّات وإرساء الديمقراطيّة، إنما هو قناع مسرحيّ وخدعة مدروسة لتبرير التدخّل الأجنبيّ وإعادة تقسيم الكعكة بين المتنازعين، بحيث يحصلون على الفتات، بينما يذهب النصيب الأكبر لأولياء نعمتهم في واشنطن وموسكو وباريس وبرلين…
يحدث ذلك الآن في ليبيا، حيث يستمرّ النزاع على تلك “الحصّة من الكعكة” كما وصفها “جون كيري” في اجتماع بمقرّ الأمم المتحدة خصّصه لدراسة تطوّرات الوضع هناك. فقال حرفيّا عن الأطراف المتنازعة: ” كان بإمكان كل طرفٍ أن يحصل على حصّته من الكعكة في بلد غنيّ بالموارد، ولكنّها وقعت في أيدي عناصر داعش.” . واللافت في ذلك التصريح، أنّ كيري لا يتحدّث عن نظام جديد أو قديم، ولا يذكر حكومة شرعيّة وأخرى غير معترف بها.. عينه فقط على الكعكة وضرورة تقسيمها. وما زاد عن ذلك مجرّد أوهام يعلو ضجيجها في نشرات الأخبار وبرامج “التوك شو”، ويسيل حبرها ومخاطها الكريه على أعمدة الصحافة. وعندما نتأمّل بعض الكلمات المفتاحيّة التي تتخلّل تصريحات الزعماء الكبار، تظهر لنا الحقيقة واضحة جليّة.
الكعكة هدف وحيد لجميع الأطياف ولكلّ التيارات الحزبيّة المتصارعة، ولمن يحرّكها من خلف الكواليس. وليست الحرب إلاّ خيارا يدلّ على صعوبة الاتفاق والتوافق بين المتنازعين. وقد أشعلوا وقودها بعد أن زرعوا تنظيم “داعش”. فلا حروب بلا سبب وجيه يحوّلها إلى حفلات مفيدة لتجّار السلاح، وساحاتٍ لاختبار الراجمات والصواريخ. وفرصةٍ سانحة لفرز المصالح من جديد.
وهكذا، تؤدّي جميع الطرق إلى الكعكة: فتوافقٌ في تونس، وانقلابٌ في مصر، وفوضى في ليبيا، وحربٌ في سوريا واليمن.  فإمّا الكعكة وإمّا داعش. الكعكة مفتاح السلام، وداعش مبرّر للحرب. ويبقى النظام هو النظام. فقط تتغيّر الرؤوس عندما يحين قطافها.

 _______________________

*كاتب تونسي

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه