عبد الرزاق قيراط يكتب:خلطة الحرب على الإرهاب في تونس

إذا كنت تونسيّا وفي بيتك نسخة من القرآن، فقد تتعرّض للإيقاف بوصفك إرهابيّا. فالقرآن يدعو إلى الجهاد،وذلك يكفي لتوريطك في “سين وجيم”

*عبد الرزاق قيراط
إذا كنت تونسيّا وفي بيتك نسخة من القرآن، فقد تتعرّض قريبا للإيقاف والسجن بوصفك تكفيريّا متشدّدا أو إرهابيّا خطيرا. فالقرآن يدعو إلى الجهاد، وذلك يكفي لتوريطك في “سين وجيم” وتحويلك إلى متّهم رجيم، حسب خطّة أمنيّة جديدة / قديمة، تعمل على تجفيف منابع الإرهاب وقطع جذوره العميقة بخلطة كريهة تصرّ على وضع الدين وعلامات التديّن في موضع اتهام. وتوضيحا لهذا التمهيد الذي لا يخلو من استنفار بغاية النقد والإصلاح، نشير إلى الأخبار التي تتهاطل على التونسيّين منذ عمليّة التفجير الإرهابيّ في شارع محمّد الخامس، وجلّها يتحدّث عن ضبط أشخاص وإحضارهم بسبب ما بحوزتهم من “كتب جهاديّة أو تكفيريّة”. وبيوت الناس ومكتبات المثقّفين لا تخلو من مجلّدات وتصانيف تتحدّث عن الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، وتبشّر المؤمنين وتتوعّد الكفّار، وتصف الجنّة والنار… والمخيف في هذا الباب ورد في خبر عجيب ذكر أنّ أعوان الأمن في القيروان “تمكّنوا من إيقاف عنصر تكفيري خطير وبحوزته كتب تدعو لما يسمّى بالجهاد”.
ما يسمّى بالجهاد!
من واجب الأمنيّين طبعا أن يوقفوا أيّ شخص يشتبهون في علاقته بالإرهاب فيحقّقوا معه، حماية للوطن والمواطنين. لكنّ  تعامل الخبر مع مصطلح “الجهاد” يحتاج إلى نظر وتحقيق. فقد أشير إلى لفظه مسبوقا بعبارة “ما يسمّى”. ولذلك الأسلوب هدف معلوم تؤيّده السوابق المحفوظة في أرشيف الإعلام التونسيّ. فذلك التوصيف “الإنكاريّ” قرينة على رفض الاسم لحجب المسمّى، ومسلك لحذف الدالّ والمدلول معاً. وهكذا يُلغَى الآخر ويُشطب من المشهد العام سواء كان شخصا أو تنظيما أو ثقافة أو حتّى مصطلحا قائم الذات، يرتبط بفرع من فروع الدين كما هو الشأن في كلمة “جهاد”… وبهذا المعنى، استعملت عبارة (ما يسمّى) خلال فترتي حكم بورقيبة وبن علي، لغايات استئصاليّة تخصّ علاقة السلطة القائمة مع قوى “الإسلام السياسيّ”. فكانت البيانات الحكوميّة وأبواقها الإعلاميّة تتحدّث عن ملاحقة المنتمين إلى “ما يسمّى بالاتجاه الإسلاميّ” أو “ما يسمّى بحركة النهضة”. وساهمت تلك السنّة اللغويّة في تحقير ذلك الخصم وعدم الاعتراف به لغويّا وقانونيّا بالرغم من شعبيّته، ومثّلت تبريرا للتضييق على الإسلاميّين عموما بأحكام جائرة ومظالم شتّى. ولم تتمكّن حركة النهضة من الحصول على تأشيرة العمل القانونيّ إلا بعد ثورة 14 يناير 2011. ولكنّها مازالت تتعرّض للانتقاد والتشكيك في خطابها السياسيّ الذي يعجّ بالمصطلحات القديمة “المخيفة”. فلها رئيس يلقّب “بالشيخ” راشد الغنوشي، ما يعكس خلطاً أو تداخلاً غير مقبولٍ، بين نشاطيْن دينيّ وسياسيّ، حسب المعارضين. ويستند تنظيم هياكلها الداخليّة، في رأي خصومها، إلى مسمّيات “تجاوزها العصر” على غرار “مجلس الشورى”… وفي سياق متّصل بذلك النفور، أوضح الغنّوشي خلال حوار مع صحيفة مغربيّة أنّ “العداء الكبير من قبل النخبة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية أجبر النهضة على الانسحاب من الحكم”… ومع حزب التحرير الذي يعمل على إحياء نظام “الخلافة”، يتضاعف ذلك العداء وتزداد مخاوف تلك النخب. فالحزب لا يشارك في الانتخابات ولا يعترف بالمصطلحات السياسيّة الحديثة. فيحرّم الديمقراطيّة ويعتبرها “نظام كفر” لا يجوز الاحتكام لها..
الحرب الشاملة.
وبناء على ما تقدّم، تتشكّل فكرة قوامها استغلال ذريعة الحرب على الإرهاب لاستئناف المواجهة مع قوى الإسلام السياسيّ، وحشرها في قائمة المتّهمين بثقافة العنف التي تغذّيها النصوص والتعاليم والمصطلحات الدينيّة حسب الخلطة المعتمدة دونما تمييز بين معتدلٍ ومتطرّف. والإعلام منخرط بقوّة في تلك الحرب الشاملة بغارات منابره وقذائف تقاريره التي تفتقر إلى أدنى درجات النزاهة بحكم سعيها إلى التشويه والتضليل. فلا تدقيق في استعمال المعطيات والمصطلحات، ولا رغبة في الاستئناس بجهود أهل الاختصاص ومنشورات مراكز البحوث والدراسات التي تناولت بعض ما ذكرناه من المفاهيم القديمة والحديثة بموضوعيّة تسمح بنقدها ومناقشة ما تنطوي عليه من خلط أو لبس أو غموض أو تحريف..
وعلى العموم، يبدو المشهد متنقّلا، فيتجاوز حدود القطر التونسيّ إلى بلدان ضفاف المتوسّط شمالاً وجنوباً حيث تستعمل نفس الخلطة في الحرب على الإرهاب لتنحرف إلى تضييق على الحقوق والحريّات حتّى في فرنسا، الدولة الديمقراطيّة العريقة في ذلك المجال. لكنّ الإشكال في تونس وما جاورها، لا يتعلّق بقصور معرفيّ في التعامل مع بعض المفاهيم والثوابت الراسخة فحسب، وإنما يفسّر بأزمةِ قيمٍ تفوح منها رائحة الخيانات، وتتصارع في حلباتها أفكار وأوهام يستعملها المفسدون في “ما يسمّى بالإعلام” لتأثيث سهرات المواطنين الذين ظلّوا يتابعون أشواط التناحر الفكريّ العقيم  بين المتكلّمين البارعين في تزييف الواقع بمغالطات كثيرة لعلّ أهمّها تغيير الأولويّات والأهداف. والنتيجة أنّ الحكومات التي جاءت بالصناديق أو بالدبابات تخلّت عن واجب محاربة الفساد وأعلنت حربها الشاملة على الإرهاب.
___________________________

*كاتب تونسي 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه