عباسي مدني اضطهده الاستعمار وظلمه النظام وبهته الإعلام!

وفاة الشيخ عباسي مدني رحمه الله، كانت فرصة للكثير ممن يكنون له حقدا كبيرا لتجديد حملاتهم ضد شخصه وتاريخه ونضاله. حملات كانت مفعمة بالتشويه والبهتان والكذب الموصوف، والتهم الباطلة. تقاطعت بعض الأقلام العربية والفرنسية مع صحافة الفتنة في الجزائر في إدانة المرحوم وحده وتحميله مسؤولية عشرية الدم والدموع والدمار في الجزائر. ووصفوه بأوصاف غير إنسانية وغير أخلاقية وجثمانه لم يوارَ الثرى بعد.
الشيخ عباسي مدني انخرط مناضلا في الحركة الوطنية حزب الشعب ثم حركة الانتصار، في سن مبكرة لم يتجاوز فيها الرابعة عشرة من عمره لينتقل إلى المنظمة الخاصة التي أعدت لاندلاع ثورة التحرير، وكان مجاهدا من الرعيل الأول، كان ضمن الفوج المبادر بتفجير الثورة في الجزائر العاصمة في غرة نوفمبر/تشرين الثاني، وكان من الأوائل الذين أُلقي عليهم القبض بعد أيام من التفجير، وأودع السجن وذاق مختلف صنوف التعذيب والتنكيل، ولم يطلق سراحه إلا مع قرار وقف إطلاق النار في التاسع عشر من مارس/آذار عام ألف وتسعمائة واثنين وستين.

من سجون الاحتلال.. إلى سجون الاستقلال

 بعد الاستقلال واصل نضاله السياسي بالانضمام إلى جمعية القيم التي أسسها الشيوخ الهاشمي تيجاني، وعبد اللطيف سلطاني، وأحمد سحنون، وحوديق مصباح عام ثلاثة وستين، وحلها الرئيس بومدين في سبتمبر/أيلول 1966 بعد رسالتها التاريخية إلى الرئيس عبد الناصر التي تطالبه  بالإفراج عن سيد قطب وجميع المساجين من حركة الإخوان المسلمين. رغم أن شيوخ الجمعية من المركزين على القضية الجزائرية ولم يكونوا من حركة الإخوان.
وحتى الشيخ عباسي لم يكن إخوانيا ولم ينتمِ إلى الحركة، فعندما اتصل به الاخوان للانضمام للحركة رفض ذلك وقال لهم “أنا صاحب قضية كرست حياتي من أجلها وإن كنت أرى أنها قضية جزئية بالنسبة للقضية الكلية لأمة الإسلام لكن بحكم تخصصي وحكم تجربتي أريد أن أبقى في هذا، أبقى حرا لهذه القضية”.
وموازاة مع نشاطه الدعوي، استأنف الشيخ مساره الدراسي حتى حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة الجزائر، ثم دكتوراه الطور الثالث في علم النفس التربوي من بريطانيا 1978. بعد عودته إلى الجزائر كثف نشاطاته السياسية ليدخل مرحلة من المتاعب الجديدة كالتي عاناها سنوات الاحتلال، إذ أودع السجن عام 1982 عقب أحداث الجامعة التي توجت ببيان وجهه الشيخ بمعية جمع من العلماء للسلطة يطالبون فيه بالإصلاح وتطبيق الشريعة الإسلامية.

   جبهة الإنقاذ و”كثرة” عجلت حلّها

بعد أحداث أكتوبر 1988 التي فرضت الانفتاح السياسي وإقرار التعددية الحزبية، أسس الشيخ عباسي مدني ومجموعة من رفاقه الجبهة الإسلامية للإنقاذ ليكتسح الانتخابات البلدية في ألف وتسعمائة وتسعين ويفوز بأغلبية البلديات، وبعد ما عرف بالإضراب العام، والعصيان المدني، الذي دعت إليه جبهة الإنقاذ، ألقي القبض على عباسي مدني وقيادة الجبهة بتهمة المساس بأمن الدولة، لتحكم عليه المحكمة العسكرية بالبليدة باثني عشر عاما سجنا نافذا، وبعد ست سنوات في السجن أي في العام 1997، ينقل الشيخ إلى الإقامة الجبرية لأسباب صحية ولم يطلق سراحه إلا بعد انقضاء مدة العقوبة رفقة شيوخ الجبهة.
وهذا يعني أن الشيخ عباسي مدني كان مسجونا مسلوب الحرية والإرادة رفقة الشيخ علي بلحاج وآخرين طيلة الفترة الممتدة من 1991 إلى 2003، أي قبل فترة العشرية السوداء، وأثناءها وبعدها. على اعتبار أن العشرية السوداء والتي يسميها البعض الحرب الأهلية اندلعت بعد تدخل الجيش لوقف المسار الديمقراطي وإلغاء الانتخابات التشريعية، وإقالة (أو استقالة) الرئيس الشاذلي بن جديد، فيما عُرف بانقلاب 1992، لقطع الطريق أمام جبهة الإنقاذ التي فازت فوزا غير متوقع حسم لها الأغلبية المطلقة في الدور الأول. حدث ذلك رغم الترتيبات التي أعدتها السلطة وتغيير قانون الانتخابات باعتماد صيغة الأغلبية النسبية، وتأكيدها بألا تتجاوز نسبة فوز الجبهة أكثر من 30 في المئة على أقصى تقدير.

  الانقلاب واندلاع مسلسل المجازر

السلطات الانقلابية، وبدعم من أذرع الفتنة الإعلامية، والأحزاب العلمانية، والاتحاد العام للعمال الجزائريين، وبعض التنظيمات المرتبطة بالسلطة، لم تكتف بالانقلاب ومصادرة الإرادة الشعبية، بل افتعلت فراغا دستوريا لتفادي تنظيم انتخابات رئاسية في غضون 45 يوما. وبالموازاة مع ذلك اعتقلت عبد القادر حشاني الذي تولى قيادة الجبهة بعد سجن الشيوخ وأودعته السجن (أطلق سراحه عام 1997، ليغتال في 22 من نوفمبر/تشرين الثاني 1999) كما شنت حملة اعتقالات واسعة طالت الآلاف من مناضلي الجبهة والمتعاطفين معها وكثير من المشتبه فيهم بتأييدها، وضعتهم في محتشدات في الصحراء الجزائرية الموحشة والقاحلة قضى فيها البعض نحبه وأصيب البعض الآخر بأمراض مزمنة… 
هذه الإجراءات الخطيرة أغرقت البلاد في أتون فتنة أهلية لم تبق ولم تذر، واختلط فيها الحابل بالنابل، ولم يعرف من يقتل من، في ظل تبادل التهم، وانتشرت فيها مجموعات الموت ارتكبت مجازر تصنف جرائم ضد الإنسانية. وعرفت الجرائم أوج دمويتها بعد تصريح رئيس الحكومة آنذاك رضا مالك الشهير الذي قال فيه” يجب على الخوف أن يغير معسكره”، وكان يقصد يجب أن يتحول الخوف إلى أوساط الشعب فتتغير طبيعة الأزمة إلى مواجهة بين الشعب.
مرحلة دموية رهيبة تمسكت فيها السلطة بخيار الحل بالحرب أو ما عرف بالكل أمني ورفضت كل مبادرات الحوار ومقترحات الحل التي قدمها حكماء البلاد وشخصياتها الوطنية وفي مقدمتها أرضية روما أو ما اشتهر باسم اتفاقية سانت إيجيديو، التي جمعت رموز الحركة الوطنية يتقدمهم الرئيس أحمد بن بلة، وعبد الحميد مهري وحسين آيت أحمد.

 السلطة وشيوخ الجبهة والفشل المبرمج لجولات الحوار

وعندما عيب على السلطة إفراطها في سياسة الاستئصال، والحل الأمني فتحت حوارا مع الشيوخ في السجن، ادعت أنه فشل وأن شيوخ الجبهة هم سبب فشله، ولم يسمع الجزائريون وجهة نظر الشيوخ حينها، ما دفع بالمناضل الرمز الراحل عبد الحميد مهري إلى وصف تلك الجولات بـ “الفشل المبرمج للحوار” 
السلطات الرسمية اتهمت الجماعات المرتبطة بجبهة الإنقاذ بمسؤولية اقتراف تلك المجازر، رغم أن معظم الجرائم اقترفت في مناطق صوتت جماعيا لصالح جبهة الإنقاذ، حتى أن أحد الوزراء قال متشفيا في سكان إحدى القرى عقب مجزرة رهيبة: “قد صوتم عليهم وانقلبوا ضدكم”. فيما اتهم ضباط فارون من الخدمة جنرالات الفتنة بقتل الجزائريين واقتراف جرائم ضد الإنسانية، وأُلِّفت حول الموضوع كتب كثيرة، وأصبح الكثير من جنرالات الفتنة مهددون بالمتابعة القضائية في الخارج على غرار ما حدث للجنرال نزار في فرنسا وسويسرا.
من يتحمل مسؤولية الأرواح التي أزهقت وفاقت 250 ألف ضحية، والخراب الاقتصادي المقدر بنحو ملايين الدولارات، وآلاف المخطوفين والمهجرين: عباسي مدني وعلي بلحاج اللذان كانا في السجن طيلة تلك الفترة أم الانقلابيون وأنصارهم؟ الحكماء من الشخصيات الوطنية التي كانت ضد الانقلاب رغم معارضتها للجبهة الإسلامية وعلى رأسهم المرحومان عبد الحميد مهري وحسين آيت أحمد، يحملون الجميع المسؤولية وإن بدرجات متفاوتة.

مصالحة ملغومة وتعتيم متواصل

وحتى الشيخان عباسي مدني وعلي بلحاج، لم يتهربا من ذلك، وتحديا السلطة بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة في العشرية السوداء وجرائمها، وأبديا قبول نتائجها، لكن السلطة رفضت الفكرة وفضلت فرض ما يسمى المصالحة الوطنية، من دون أدنى مصارحة، لتبقى الحقائق مغيبة، والجرائم من دون عقاب، وتحصينها بقانون يجرم كل من ينتقدها. كما أن الشيخ عباسي صرح في أكثر من مناسبة أنهم في الجبهة الإسلامية لا يعرفون هؤلاء القادة الذين شكلوا جماعات مسلحة، وأنهم لم يستشيروهم للشروع في العمل المسلح ولم يستشيروهم في وقفه.
العشرية السوداء لم تكشف كل أسرارها، ولم يطلع الرأي العام الوطني والدولي إلا على رواية السلطة على نطاق واسع، وهي طرف أساسي في الأزمة ولا ينازعها في تفجيرها أي طرف آخر.. واعتمادا على هذه الرواية غير المحايدة يدين بعض الناس الشيخ عباسي وجبهة الإنقاذ وحدها دون بينة أو اطلاع لأن معظمهم إما “شربوا من آذانهم” كما يقول المثل الجزائري، أو أنهم ينطلقون من معارضتهم لقناعاته الدينية، ومشاربه الحضارية لإدانته سياسيا.. 
لم تُثبت السلطة أن عباسي مدني دعا إلى العنف أو أيد الاقتتال بين الجزائريين، وخانتها القرينة والدليل، وإلا ما كان لها أن تطلق سراحه بل تزيده سجنا على سجن. عباسي مدني دعا إلى إضراب عام وعصيان مدني كشكل من أشكال الضغط السياسي السلمي على السلطة فُسجن بتهمة المساس بأمن الدولة، والتاريخ كفيل بكشف الحقائق، وتحديد المسؤوليات وإنصاف الضحايا، وإدانة الجناة، ولو بعد حين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه