عامر عبد المنعم يكتب: ظاهرة إخلاء مدن العرب

 عامر عبد المنعم*

يتعرض العرب في  السنوات الأخيرة لعمليات إبادة وتهجير غير مسبوقة، وتدمير منظم تؤدي في مجملها إلى أكبر عملية إخلاء للعرب عبر تاريخهم، فبالأمس تم تهجير الشعب الفلسطيني على يد العصابات الصهيونية لإخلاء فلسطين للصهاينة لإقامة كيان استيطاني، ومازال اللاجئون الفلسطينيون وأولادهم الذين تشردوا في العالم يعانون حتى الآن. وخلال العقد الأخير امتلأت الأرض باللاجئين العرب والمسلمين من العراق وسوريا وأفغانستان واليمن والصومال ومالي، ويبدو أن هناك من ينتظر دوره.

الملايين من المسلمين تم تهجيرهم عن منازلهم، بعضهم استطاع الخروج والهجرة خارج أوطانهم وملايين النازحين أخرجوا من بيوتهم وسكنوا الصحراء والجبال هربا من القتل الجماعي في حروب تشهد أحدث الأسلحة التي تدمر البيوت والمنازل وتحرق ما بها من مدنيين، أطفال ونساء وكائنات.

منذ أيام أصدرت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تقريرا كاشفا لخطورة قضية اللاجئين والنازحين وطالبي اللجوء في العالم حتى النصف الأول من عام 2015 قالت فيه إن أعداد المهجرين قسرا والذين أجبروا على ترك منازلهم تجاوز الـ 60 مليون إنسان، بمعدل واحد من أصل 122 إنسانا على وجه الأرض.

هذا الرقم لا يتضمن كل المهجرين  والذين أخرجوا من ديارهم فهو فقط خاص بمن قامت المفوضية بتسجيلهم من خلال بعثاتها والمنظمات المتعاونة معها والدول المستضيفة للمهاجرين وطلبات اللجوء ، وهذا الرقم حتى منتصف عام 2015 أي قبل التدخل الروسي في سوريا والذي ترتب عليه تهجير ملايين أخرى في القصف المتواصل لتفريغ مساحات واسعة من سكانها السنة لإقامة ما يسمى سوريا المفيدة التي تمتد من دمشق وحتى اللاذقية والساحل.

بنظرة أكثر تركيزاً على عمليات التهجير نجد أن عملا منظما يجري لتخريب الدول وتفريغها من سكانها وليس مجرد عمليات متفرقة معزولة، فالحروب الاستباقية التي بدأت في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش كانت البداية لتدمير عواصم وتهجير السكان، فالبداية كانت من أفغانستان ثم انتقلت عملية التدمير والتهجير إلى العراق، قبل أن تتحرك الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران بغطاء جوي غربي تمارس الإبادة ضد السنة في العراق وسوريا ثم اليمن، ونفس مخطط التهجير تم في الصومال ومالي وأفريقيا الوسطى وليبيا بسبب التدخل الدولي الذي يعمل على فرض حكومات بعينها بالقوة المسلحة، أو توفير الغطاء الدولي لعمليات الإبادة كما في ميانمار، أو بالدعم المباشر لطوائف مثل الشيعة وإيران ضد السنة كما في العراق وسوريا واليمن.

الولايات المتحدة ودول أوربا التي تتحدث الآن عن خطر المهاجرين وتبحث عن حلول لوقف موجات الهاربين من القتل تتحرك حتى لا يغرقها طوفان اللاجئين، بعد أن تدفق نحو مليون إنسان عبر المتوسط هربا من جحيم الحروب التي أشعلها الغرب تحت شعار”مكافحة الإرهاب” وهي في الحقيقة في مجملها لمنع تحرر الدول من الهيمنة الغربية ولإجهاض الثورات ولمنع الشعوب من تغيير حكامها.

هناك أكثر من عاصمة عربية وإسلامية تم تدميرها وتم تهجير سكانها، ويبدو أن عواصم أخرى في طريقها للمصير نفسه في زمن الحروب التي أصبحت كالنار تتوسع كل يوم وتأكل المزيد من الأراضي وتطرد سكانها، ويبدو أن قطاعات ليست بالقليلة من العرب ينتظرها مصير مظلم من الإبادة والتهجير يتراوح بين مصير الهنود الحمر الذين تعرضوا للإبادة ومصير الأفارقة السود الذين تم شحنهم إلى أمريكا والعالم الجديد كعبيد لتشغيل المصانع وزراعة الأرض، فالعرب والمسلمون في مناطق الحروب إما يقتلون حرقا بالقنابل وغرقا في عرض البحر، أو يفرون على أقدامهم آلاف الكيلومترات يطلبون اللجوء والملاذ الآمن، والغرب يبحث كيف يستوعب بعضهم كمنقوصي المواطنة ووضعهم تحت السيطرة للزراعة وتشغيل المصانع.

ومن الواضح أن تهجير العرب والمسلمين وإخلاء مناطق التماس  مع الشعوب والحضارات الأخرى استراتيجية غربية جديدة عن طريق جيوش الغرب أو الميليشيات العرقية والطائفية المتحالفة معه، تتضح ملامحها مع الوقت فالكثافة السكانية تعد عنصر قوة للمسلمين ولذلك كان الاستعمار حريصا على تمزيق الأراضي الممتدة للمسلمين وتقطيعها لدول، وكانت فكرة إعطاء فلسطين لليهود كدولة حاجزة تقطع الامتداد الجغرافي للعالم الإسلامي، وتفصل بين المسلمين في الجانب الآسيوي عن المسلمين في الجانب الأفريقي أهم مقررات المؤتمر الاستعماري في لندن عام 1906 قبل سايكس بيكو بسنوات.

عندما قرأت كتاب منير العكش “أمريكا والإبادات الجنسية” صدمتني المعلومات الواردة في الكتاب من الوثائق التي تؤكد انتشار أفكار إبادة الأجناس الأخرى وتأصيل النظريات التي تضع الأساس للتخلص من الشعوب المغايرة، ومنها وثيقة من 107 صفحات وضعها هنري كيسنجر عام 1974 حين كان مستشارا للأمن القومي والتي وضعت بتوجيه من الرئيس جيرالد فورد وبها خطة لتعقيم وقطع دابر نسل نساء 13 دولة في العالم الثالث بينها مصر وذلك في مهلة لا تزيد عن 25 سنة، وهناك معلومات تؤكدها وقائع التاريخ عن التوسع في القتل والإبادة وإيجاد تبريرات عقائدية ومشروعية لسفك الدماء، تمتلئ بها تفسيرات سفر الرؤيا التي يتبناها المسيحيون الصهيونيون.

يبدو أن خرائط التقسيم الجديدة التي يريدون تنفيذها بالقوة المسلحة وإعادة تمزيق الدول العربية والإسلامية الكبرى لن تضعف المسلمين كما يريد خصومهم طالما يتوزع السكان بنفس الكثافة على الأراضي التي يقيمون عليها ولا توجد موانع لانتقالهم ومساندة بعضهم البعض، ومع توسع حركة التحرر وعجز دول الغرب عن القتال البري الذي يحتاج إلى قوات أرضية تبرز أهمية التخلص من الكثافة السكانية للمسلمين السنة بالقتل والإبادة أو بالتهجير والتشتيت وإخلاء البلاد المستهدفة من سكانها.

الغريب هو انقلاب المنطق؛ فالقاتل هو الذي يتهم المقتول بالإرهاب، والذي يقصف بالصاروخ والطائرة هو الذي يقف أمام الميكروفون يدعو لاحترام المهجرين وطالبي اللجوء بدلا من أن يوقف آلة القتل والهدم التي تدور بدون توقف، ويبدو أن الإنسان الغربي كلما زاد تحضرا ازداد عدوانية، وبينما لم نفق من نتائج حروب بوش الاستباقية جاء الروسي فلاديمير بوتين الذي يريد بناء مجده الإمبراطوري على جماجم المسلمين، يريد تكرار تجربته الدموية مع ثورة الشيشان بالتدمير التام للعاصمة جروزني وإبادة ما بها من أرواح، جاء بأحدث تقنيات القتل والتدمير ليمسح قرى ومدنا سورية من على الخريطة ويبيد ما عليها من بشر وكائنات حية، ويزعم بعد كل هذا الإرهاب والإبادة أنه يحارب الإرهاب!

الخطر لم يعد بعيدا كما كنا نظن من قبل، فالجيوش الأجنبية في كل مكان حولنا والأساطيل تحاصر المنطقة، واستراتيجيات الدول المتنافسة والمتصارعة على النفوذ والهيمنة لا تعمل لصالحنا وتلتقي مصالحها علينا، وإن لم يقف العرب والمسلمون يدا واحدة ويضعوا استراتيجية خاصة بهم لوقف هذا الزحف الخارجي لإبادتهم فلتنتظر باقي العواصم دورها في التدمير والتهجير، وويل للعرب والمسلمين من الشر الذي يقترب ويقترب.

 ______________________________

*كاتب صحفي مصري

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه