ظاهرة اعتزال السياسة

 

هوجة اجتاحت الساحة السياسية المصرية عنوانها اعتزال السياسيين العمل السياسي في مشهد يتشابه مع مشاهد احتفالات اعتزال لاعبي كرة القدم، أو أخبار اعتزال الراقصات للرقص، وهو الأمر الذي فرض تساؤلات حول مفهوم العمل السياسي وتعريف الشخص السياسي والفرق بين السياسي النجم والسياسي ابن الأقدار والمصير والقناعة، ومدى قدرة كل منهما على تحمل الضغوط من أجل الوصول إلى هدفه، وهو ما يرتبط بصفتين متناقضتين وهما النضال والانتهازية.

السياسة في المدرسة الاشتراكية هي دراسة العلاقات بين الطبقات، وعند الواقعيين هي فن الممكن أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيا، والتعريف الحديث الدارج للسياسة أنها العلاقة بين الحكام والمحكومين أو الدولة وكل ما يتعلق بشؤونها أو السلطة الكبرى في المجتمعات الإنسانية وكل ما يتعلق بظاهرة السلطة.

ونيل المناصب

وفرق الفيلسوف اليوناني أرسطو بين السياسي الفيلسوف والسياسي غير الفيلسوف، الأول يتجه في بحثه السياسي نحو تأهيل نفسه وتأهيل المجتمع لأن يكون عضوا صالحاً في مجتمعه، والثاني وهو السياسي غير الفيلسوف فتتجه نظرته نحو تحقيق مصالح ذاتية والنجاح النجومي ونيل المناصب.

وتعتبر التعريفات الأرسطية هذه تفسيرات لظواهر واقعية كثيرة في ساحات السياسة في مصر، فهي تفسر على سبيل المثال، الفرق بين نوعين من السياسيين في المجتمع المصري، الأول السياسي الذي ينطلق للتغيير من إحساسه بالظلم سواء الظلم الشخصي أو الظلم الواقع على آخرين يدخلون في دائرة اهتمامه وضميره الإنساني أو من خلال رقي ثقافي أو موضوعية علمية أو أحاسيس فنية، وهؤلاء هم القابضون على موقفهم طالما لم يتحقق هدفهم بالقضاء على الظواهر السلبية مثل الظلم والاستبداد والقهر والجهل والفقر، وهم دائما ضحايا لمواقفهم وزبائن دائمون على صليب القمع والإرهاب والمطاردات والسجون، ولا تراهم في المشهد النجومي في الفضائيات أو الصحف ومؤتمرات البهرجة، هم دائما في مقدمة الثورات والهوجات الشعبية يمثلون الصدر الذي يتلقى الضربات والطعنات، ويختبئ وراءهم النوع الثانى، لهذا فلا أستطيع أن أضرب أمثلة لهم من بين الأشخاص العاملين في السياسة، فهم الذين يديرون ماكينات التغيير والثورة دون ظهورهم في المشهد.

أما النوع الثاني فهو الذي يرفع شعارات مستمدة من معاناة المظلومين والمقهورين ليحولها إلى بالونة غازية تصعد به إلى سماء النجومية، وهو في وضعه الاجتماعي أقرب إلى المناصب الكبرى والصفات الوجيهة في المجتمع ذات الأرباح المبالغ فيها، والتي تفصله تماماً عن الإحساس الحقيقي بمعاناة هؤلاء الذين تحولت معاناتهم لديه إلى أدوات وشعارات رنانة وكلمات حماسية وطريق للنجومية!

اللعبة

الفيسلوف السياسي عند أرسطو لا يخشى من الثورات إلا عند وجود المجتمع الكامل، فهو عندئذ يرجو الحفاظ عليه، أما السياسي غير الفيلسوف يخشى دائما من الثورات ولو كان المجتمع أرضا خصبة للآفات وأسباب الضعف والانحلال، فالمعارضة السياسية والعمل السياسي لدية وسيلة لتحقيق هدف ذاتي، لهذا فالصراعات والجدل الدائر في المجتمعات المنهارة مناخ خصب لنمو موارده الذاتية، فتجد منهم الإعلامي الذي استطاع نسج صورة ذهنية عن نفسه لدى البسطاء باعتباره بطلاً قوميا لا يخشى لومة لائم في قول الحق في وجه حاكم ظالم، مستندا على أقوال وأفعال تبدو وكأنها معارضة ولا تتعلق بأي محتوى يرتبط بآلام ولا هموم البسطاء أو أفكار تحدد مواطن وأسباب الاستغلال والفساد وكيفية التخلص منهم، بينما هو في تفاصيل حياته اليومية كان عنصرا لطيفا من عناصر المجتمع المستغل المستبد يعيش حياتهم ورفاهيتهم، وعند اللحظة الحاسمة الفاصلة التي فرضتها ثورة الشعب في 2011 كان في مؤخرة الجماهير ينتظر الصورة الأخيرة التي ما أن اهتزت حتى كان الشاهد الأول في تبرئة الحاكم الجائر الذي ادعى أنه كان صاحب كلمة الحق في وجهه، وليؤكد لنا أن الأمر كله لعبة وأن الشعب هو ضحية هذه اللعبة.

الفنان الذي برع في مجاله وأراد أن يضيف إلى نجوميته نجومية تدعم الهالة التي تحيط به فتحول إلى برلماني شارك في تشكيل الأصوات القليلة التي عارضت قرارات فاسدة مسجلا الموقف لنفسه ومكملا للمشهد الديمقراطي الزائف أمام العالم، وما أن انتهى دوره حتى أعلن أنه يعتزل العمل السياسي للتضييقات التي تحاصره، ولو كان التعبير عن هموم الناس عنده حقيقيا وجزءا من وجدانه لترك مقاعد البرلمان الفاسد وانخرط في صفوف الناس يصرخ ضد الظلم ويواجهه حتى يقضى عليه، ولكنهم أبطال من نجوم متلألئة لا تحيى إلا عاليا أمام الأضواء وتشمئز من رائحة الواقع على أرض الفقراء والمساكين والمظلومين.

مثل جيفارا

يري البعض أن الجهاد ضد الظلم قدرات متفاوتة تختلف من فرد لفرد… ربما هذه المقولة صحيحة بقدر بسيط يتعلق بمهارات العمل اليومي.

الثابت أن السياسي الذي يعبر عن الآم الناس لا يترك موقعه بين الناس حتى يقضى تماما على مواطن الظلم مثل المناضل تشى جيفارا الذي رفض المناصب الرفيعة بعد أن تحرر وطنه كوبا وظل يطارد الظلم والاستعمار في قارة أمريكا اللاتينية لقناعته أن خطر الاستعمار لا بد أن يجتث من جذوره، هو الفرق بين السياسي الذي يواجه الاستبداد من أجل تحقيق العدل والقضاء على الظلم، والسياسي الذي يواجه الاستبداد في مشاهد تمثيلية بلا محتوى لتحقيق نجومية ومن أجل حجز مكان في صفوف المستبدين بعد اعتزاله.

مصطفى كامل كان يحمل ثقافة وشهادات أوربية وكان من الممكن أن يكون من باشاوات عصره ولكنه انحاز للفقراء قناعة ومات دون أن يعتزل هموم الناس.

سعد زغلول ضحى بمغريات المناصب من أجل قناعته بالاستقلال وحرية الشعب ومات دون أن يعتزل هموم الناس.

أحمد نبيل الهلالي ترك ميراث والده الباشا رئيس وزراء مصر وتحمل السجون والحياة الضنك من أجل الانحياز للفقراء ومات وهو في السبعين من عمره دون أن يعتزل هموم الناس.

مهدى عاكف لم يعرف في حياته سوى السجون والمطاردات وكان من الممكن أن يكون نجما سياسيا وقانونيا ولكنه أخلص لأفكاره التي يرى فيها حلا لمآسي المصريين من وجهة نظره ومات في السجن مريضا وهو يقترب من التسعين عاما دون أن يعتزل هموم الناس.

من يعتزل هموم الناس ليس من الشعب وإنما هو كومبارس في جوقة الحكام والمستغلين والمستعمرين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه