طعنات في قلب الثورة المضادة

الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي

 

 

علت الثورة المضادة، واستفحلت خلال السنوات الخمس الماضية خاصة بعد نجاحها في الانقلاب على أول حكم مدني في مصر أنتجته ثورة يناير بعد ستين عاما من الحكم العسكري، ولم تكتف بتدبير ورعاية الانقلاب العسكري في مصر، لكنها راحت تضرب يمينا ويسارا، فساندت الحوثيين لقتل الثورة اليمنية ثم سيرت جيوشها نحو اليمن للسيطرة الكاملة عليه، وتحركت غربا لمحاولة السيطرة على الحكم في ليبيا، وفي تونس أيضا، وشرقا لقتل الثورة السورية تماما، وفي القلب حيث فلسطين ومحاولة الإجهاز على ما تبقى من مقاومة، وفرض واقع جغرافي وسياسي جديد عبر ما سمي بصفقة القرن.

مع هذه النجاحات للثورة المضادة إلا أنها تتعرض في الوقت الحالي لطعنات تأتيها من الجهات ذاتها التي سجلت انتصارات سريعة ومؤقتة فيها، وتعيش عواصم الثورة المضادة في الرياض وأبو ظبي وتل ابيب حاليا واحدة من أحلك اللحظات، في مرحلة دفاع بعد مرحلة هجوم واستعلاء، وعدوان لم يتوقف على مدى السنوات الخمس الماضية.

التوتر سيد الموقف

في الرياض التي اعتبرت منذ البداية ثورات الربيع العربي هي الأخطر عليها من الصهانية ومن الشيعة، يبدو التوتر هو سيد الموقف، والبحث عن مخرج من فضيحة قتل وإذابة جثة جمال خاشقجي هو الشغل الشاغل للجميع، وفي سبيل ذلك هناك استعدادات للتنازل عن أمور كثيرة، أو دفع مليارات أكثر مما دفع من قبل، لكن الخناق يضيق على رقبة القتلة وفي مقدمتهم الآمر بالقتل محمد بن سلمان، الذي تحول إلى بطة عرجاء في انتظار نهايته، والتي لا تنجيه منها تصريحات متضاربة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

قبل شهرين فقط كان بن سلمان يشعر وكأنما حيزت له الدنيا، أن يسرح ويمرح فيها كيف يشاء، وكأنما أصبح خاقان البر والبحر والجو، ظن أنه حصل على تفويض أمريكي بالتحرك كما يشاء وفعل ما يشاء، وكان يعد الأيام لتولي ملك المملكة في حياة والده الذي يرغب في ذلك بعد أن دفع الجزية المطلوبة 110 مليارات دولار عدا ونقدا ثمنا لصفقة سلاح و340 مليار دولار أخرى صفقات تجارية آجلة.

حرك بن سلمان جيش المملكة ومعه بعض الجيوش العربية صوب اليمن فيما وصفه بعاصفة الحزم، التي كان يظنها مجرد نزهة تستغرق عدة أيام تدين له بعدها اليمن بالولاء والطاعة، ويعود منها مظفرا إلى الرياض ملكا، لكن العاصفة تحولت إلى وحل غاص فيه بن سلمان وجنوده، وأصبح مجبرا على الخروج منه بعد أن تعالت المطالبات الدولية بوقف تلك المأساة اليمنية والمسئول عنها ذلك الأمير الغر، لن يقتصر الأمر على وقف الحرب والعدوان، والذي سيصبح بدوره هزيمة قاسية لصاحب العاصفة، ولكنه سيتسع للمطالبة بتحقيقات ومحاكمات دولية حول جرائم حرب ارتكبت في تلك الحرب.

لإرضاء أسياده

على المستوى الداخلي أعلن بن سلمان عن خطة إقتصادية كبرى لتطوير وتنويع اقتصاد المملكة بحلول(2030)، وشملت الخطة طرح حصة من شركة أرامكو في أسواق المال العالمية، وإقامة منتجعات سياحية كبرى مثل منتجع “نيوم” بالشراكة مع مصر والأردن والكيان الصهيوني، وهو منتجع تطبيعي بامتياز لإرضاء أسياده الصهاينة، كما طرح مشروعا للتغيير الاجتماعي شمل السماح بقيادة النساء للسيارات، وخلع العباءة السعودية التقليدية، وببيع الخمور في بعض الأماكن، والتوسع في المهرجانات الفنية والترفيهية عموما، لكن الطريف أنه اعتقل السيدات اللاتي قضين عمرهن في الدعوة للسماح للنساء بقيادة السيارات، ولا تزال العديد منهن رهن الحبس حتى الآن.

لا عاصفة الحزم نجحت، ولا خطة 2030 صمدت، ولا حلم الملك اقترب من التنفيذ، بل أصبح أبعد منالا، وأصبح همً الأمير الغر هو البحث عن طوق نجاة لنفسه مما ينتظره من محاكمات واتهامات، وهكذا ينكمش الأمير”المتضخم” ويصبح بطة عرجاء حتى لو نجح في الإفلات من المحاكمة وفقا لتسوية سياسية دولية، فلن يعود بن سلمان قبل جريمته كبعدها.

ملف جاهز لأبو ظبي

أبو ظبي التي كانت مقرا لغرفة عمليات الثورة المضادة، والتي خططت لانقلاب السيسي، وانقلاب حفتر، والانقلاب على ثورة تونس، والتي سعت للتمدد في أفريقيا وآسيا على غير أساس، تعيش هي الأخرى أصعب لحظاتها مع محاصرتها بالإتهامات، فهناك ملف جاهز ضدها لمحاكمتها أمام الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في حرب اليمن، وهناك ملف آخر عن جرائمها بحق المعتقلين في سجونها الداخلية، ناهيك عن مساءلتها عما جنته بحق الشعوب العربية الساعية نحو الحرية والتي ساهمت الإمارات بقوة في وأد أحلامها.

جاءت جريمة مقتل خاشقجي لتمثل طعنة جديدة في قلب حكام ابوظبي الذين تشير أصابع الإتهام لضلوعهم في الجريمة، وفي جرائم أخرى، ولتجعلهم منكفئين على أنفسهم بدلا من التمدد الخارجي، حتى إنهم يسعون حاليا لدى بعض الحكومات التي لا تزال تحتفظ بعلاقات حسنة مع تركيا للتوسط لديها، وتجنيبهم المساءلة، كما أن حكام أبوظبي يسعون للتنصل من جريمة حرب اليمن، ويحاولون إلقاءها على السعودية، وهاهم يستقبلون قادة حزب الإصلاح (فرع الإخوان في اليمن) الذي دبروا الحرب أساسا ضده، وهو ما يعد تراجعا منهم (أي الإمارات)، كما أنهم يتغافلون عن حلمهم بتأسيس حلف ناتو عربي لمواجهة إيران وتركيا والتيارات الديمقراطية التي تزعجهم.

توتر الانقلاب في مصر وليبيا

في مصر يعيش قائد الانقلاب المدعوم صهيونيا وسعوديا وإماراتيا لحظات توتر مع تسارع التطورات بشأن قضية خاشقجي، وتداعياتها الحالية والمرتقبة، فأصابع الإتهام تشير لضلوعه أيضا في الجريمة بطريقة ما ستكشفها التسريبات لاحقا، وأخلص أصدقائه وكفلائه في مهب الريح، فلم يعد لدى “دول الرز” ما يفيض له، بعد أن نزح ترامب أغلبه، وبالتالي لم يعد الجنرال قادرا على تحسين الأوضاع الاقتصادية التي تزداد سوءا يوما بعد يوم، وغالبا لن يستطيع إتمام مشاريعه الكبرى التي بدأها بدعم خليجي لن يستمر، ولم يعد قادرا على توفير الأمن، فالجرائم الإرهابية لا تزال قائمة بل تتزايد وخاصة بحق المسيحيين الذين عانوا في عهده أضعاف ما عانوه في عقود سابقة.

في ليبيا لا تزال الحرب سجال بين قوى ثورة 17 فبراير وقوى الثورة المضادة، ورغم الدعم الإقليمي والدولي للجنرال المتقاعد خليفة حفتر إلا أنه لم يستطع فرض سيطرته على العاصمة طرابلس، وظل حبيس منطقته الشرقية بدعم من نظامي السيسي وبن زايد، وقد حاول الداعمون الإقليميون إنجاز تسوية سياسية في باليرمو الإيطالية مؤخرا بين الفرقاء الليبيين، تستهدف تمهيد الأرض لحفتر إلا أن الخطة ستواجه الفشل على الأرض مع رفض غالبية قوى الثورة لها، وبعد انسحاب تركيا منها.

عجز السبسي

وفي تونس لم يستطع رئيس الدولة الباجي قايد السبسي المدعوم من قوى الثورة المضادة في المنطقة تغيير رئيس الوزراء يوسف الشاهد المدعوم من حركة النهضة وقوى ثورية أخرى، بل أصبح الرئيس السبسي في موقف الدفاع عن نفسه، وعن نجله الحافظ الذي تسبب في انقسامات وانسحابات خطيرة بحزبه نداء تونس، وهي الانقسامات والانسحابات التي مهدت لتكوين قوة برلمانية أكبر دعمت بقاء الشاهد رئيسا للوزراء.

أما القضية المركزية للعرب والمسلمين وهي قضية فلسطين، فقد شهدت تعثرا إن لم يكن موتا لما وصف بصفقة القرن، لتسويتها على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ووجدنا أول من أطلق هذا الوصف عربيا وهو عبد الفتاح السيسي ينفي وجود هذه الصفقة مدعيا أنها مجرد كلام إعلامي، كما تعرض الكيان الصهيوني لطعنة جديدة في قلبه مؤخرا حين تمكنت المقاومة الفلسطينية من دحر عملية تسلل استخبارية استهدفت أسرأو قتل عدد من قادة المقاومة، فكانت النتيجة هي قتل قائد الوحدة، وإصابة آخرين، رغم قتل أحد قادة القسام المحليين، وقد تسبب هذا الفشل الصهيوني في هز حكومة الاحتلال التي قطع رئيسها زيارته لفرنسا قافلا إلى القدس المحتلة، كما تقدم وزير الدفاع الصهيوني باستقالته.

كل هذه الطعنات لقوى الثورة المضادة سواء في الرياض أو أبو ظبي أو القاهرة أو تل أبيب، وفي مسارح عملياتها في اليمن وفلسطين ومصر وليبيا وتونس، وسوريا الخ تعكس تغييرات تدريجية مهمة في الخارطة السياسية بالمنطقة، وهي قابلة للتطور خلال الفترة المقبلة مع تطورات قضية خاشقجي، وهي تحتاج لمن يبني عليها، ويحسن الاستفادة منها لاستعادة ثورات الحرية والديمقراطية.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه