طال عمره والشعب الساخر

هذا هو ثاني مقال أتعرض فيه لسخرية المصريين اللاذعة في السياسة، وتحديدا من الحكام والرؤساء والملوك وأحيانا من أنفسهم، أو لأي ممن يتولى أمرا من أمورهم فيبطش أو يستخف بهم، وكان مقالي الأول بمناسبة “بندول السيسي”، واليوم ألحت عليَّ الكلمات بأن أنظم جملا في هذا الأمر بمناسبة الهبة الشعبية الساخرة غير المنظمة ضد تركي آل شيخ “طـــال عمـــــره” كما يحلو للمصريين أن يزيلوا اسمه بأسلوب ساخر، بالإضافة إلى ألقاب كثيرة أخرى أشهرها “جــوال الأرز”

        كثير من العلماء والباحثين استندوا إلى أن سخرية الشعب المصري ترجع لكونه شعبا يحب المرح والسعادة والضحك بطبعه، واستند الكثير منهم إلى مؤشرات وإشارات تاريخية من خلال الآثار الفرعونية والأساطير المتداولة، إلا أن الظاهر لأي مدقق في قراءة التاريخ أنه يجد أن السخرية المصرية طوال الوقت كان مصدرها الألم، والمعاناة، والقهر، والعجز، ويمكن أن نلاحظ هذا في طبيعة الإله “بس” إله المرح والسعادة عند المصريين، فلم تكن هيئته ولا شكله ولا طبيعته الجسمانية لها أي علاقة بالمرح والسعادة، بل على العكس كان قزما مشوّه الخِلقة، غزير الشعر، يلبس “باروكة” من الريش وجلد أسد، ويخرج لسانه من فمه، ورغم ذلك كان الإله الوحيد القادر على بث السعادة والمرح في نفوس البشر، كتعويض أو رد فعل عكسي لحالته المأساوية، وكانت وظيفته حماية الناس من الشر ومن كل ما يضرهم من الكائنات الحية الموجودة على الأرض، وكان من ضمن مهامة كإله أن يُدخل السرور على قلب الإنسان، بالإضافة إلى أنه كان خير معين لأي امرأة وهي تلد.

المقاومة بالسخرية

        الشاهد أن السخرية عند المصريين نوع من أنواع التنفيس عن أزمات خارج قدراتهم على المواجهة، وهذا انعكس على حياتهم الاجتماعية والسياسية، وقبل أن نضرب أمثلة على المواجهة أو المقاومة بالسخرية، أحب أن أوضح أن هذه الحالة الساخرة لدى الشعب المصري تتميز بالاستقلالية عن أي مؤثرات وضغوط، هذا طبيعي، فهى حالة أو وسيلة نفسية ابتكرها المصري لمواجهة الضغوط وبالتالي لا يصلح أن تكون واقعة تحت أي ضغط سياسي أو اجتماعي مهما كان نوعه، خاصة لو كان الموقف الساخر جماعيا.

وهذا السلوك الساخر الجمعي في مصر يتميز باستقلالية شديدة، فعندما هاجم جمال عبد الناصر ملك السعودية وملك الأردن هجوما شخصيا، ورغم شعبية “ناصر” لم يتفاعل الشعب مع موقف ناصر ولم يتناول أيا من الحاكمين بالسخرية ليس موقفا من جمال عبد الناصر، ولكن لأن هذا الموقف بالذات هو قرار مستقل ينبع من داخل وجدان الشعب، ولهذا لم يتأثر الشعب المصري بأي نوع من التأثيرات أو المؤثرات بعلاقة النظام المصري بأي حاكم عربي أو أجنبي.

والآن لم يتبع الوجدان المصري موقف النظام الحاكم المصري في علاقته المتدنية والعجيبة بالمستشار تركي الشيخ بل على العكس حمل الشعب موقفا مغايرا تماما لموقف النظام الحاكم، والأكثر أنه استخدم مفردات من داخل معسكر النظام الحاكم الذي يراه نظاما باطشا قامعا، وأشهر هذه المصطلحات “شــــوال الـــرز” و”الــــــرز” لفظ أطلقه عبد الفتاح السيسي على أموال الخليج في معرض حديث له مع مستشاريه حول إمكانية الحصول على أموال من هؤلاء الحكام، حيث إنها لا تعد ولا تحصى مثل “الـــــرز”.

 وعندما أدرك تركي الشيخ، ممثلا عن ولي عهد السعودية، أن النظام المصري في موقف الدلال البائع لوطنه مقابل الأموال، هبط إلى مصر بطريقة الثري القادر على شراء كل شيء على الإطلاق، بمنطق أن كل شيء له سعر مهما كانت قيمته، وبالطبع وجد طريقه ممهدا بين رجالات النظام وأتباعه وحراسه، وصرف الملايين لتحقيق السيطرة والهيمنة على وطن عريق عن طريق الدلالين والنخاسين، ومن أجل أن يمهد طريقا للسيطرة على الوجدان الشعبي، ومن ثم مقدراته من خلال مشروعات طفيلية لا عائد منها إلا الأوهام والفساد، وعندما اقترب من مداخل الشعب المصري لاقى مصيرا لم يكن يتوقعه من شعب توهم أنه شعب سهل مقهور لا جهد له للمقاومة، واصطدم “الجــــوال” بالتجريس المصري.

الاقتراب من كرامة الشعب

  والتجريس المصري يا سادة عقوبة شعبية لكل من تسول له نفسه الاقتراب من كرامة هذا الشعب أو الاستخفاف أو الاستهانة به، ولكي نتعرف عليها لابد أن نوضح إشارات بسيطة لمعناها وتاريخ ظهورها، فالكلمة في العموم تعني التنديد بشخص والكشف عن عيوبه، وفي الأصول التاريخية ترتبط بالجرس، حيث كان المحتسب الذي يعينه الخليفة أو الوالي في منطقة واسعة ليمارس سلطات واسعة في الرقابة، أشبه بسلطات رئيس الحي وكان له حق إنزال العقوبات على المخالفين، ومن هذه العقوبات وضع المخالف على حمار بالعكس وزفه بالأجراس والطبول في الحي لفضح ما ارتكبه من المخالفات.

ولما انتهى الضبط الإداري والتنظيمي للتجريس انتقلت ممارسته إلى تفاصيل حياة الشعب، منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، ومنها ما هو ديني كالتجريس بمفطر رمضان، ومنها ما هو أخلاقي كالتجريس بالمتحرش، ولكن ما يعنينا هو التجريس بالحكام وأصحاب القرارات التي لا يستطيع الشعب مواجهتها أو التصدي لها، فيلجأ إلى التجريس المغلف بالسخرية المصرية والتي غالبا ما تحمل مرارة وكراهية شديدة، تجعل من يمارسها يتطرق إلى تفاصيل حياة شخصية تهين وتؤلم من تسبب في ألمه أو مضايقته أو استفزازه.

تجريس الملك

ويحاول البعض أن يصور التجريس على أنه خروج عن الأدب، مثلما وصف البعض الكلمات التي وجهها الشباب المصري لتركي الشيخ في أحد المباريات، من خلال هتاف منظوم سرعان ما انتشر بين المصريين، الذين تلقفوه في اشتياق الكارهين، وتظهر هذه الحالة بوضوح في بداية القرن العشرين عندما استفزت خيانة الملك فؤاد الشعب المصري وانزعج من انحيازه للمحتل الإنجليزي، وكان من الصعب توجيه أي نقد له فاستغل بيرم التونسي كونه من أصول تونسية، ويخضع للامتيازات الأجنبية والحماية الفرنسية، حيث كانت تونس تابعة للاحتلال الفرنسي، ونظم زجلا استغل فيه روايات الفساد الأخلاقي داخل القصر الملكي، خاصة أخت الملك التي حاول أن يزوجها لأكثر من شخص ورفض لإخفاء فضائحها، وتلقف الشعب المصري المحتقن من خيانة الملك فؤاد كلمات الزجل ونشرها في ربوع البلاد ومن كلماتها:

“البنت ماشية من زمان تتمخطر والغفله زراعه في الديوان زرع أخضر

تشوف حبيبها فى الجاكته الكاكى والسته خيل والقمشجى الملاكى

تسمع قولتها …. ياوراكى والعافية هبله والجدع متشطر

الوزة من قبل الفرح مدبوحة والعطفة من قبل النظام مفتوحة

والديك بيدن والهانم مسطوحة”

 ونعود إلى زماننا وواقعة “طويل العمر” كما هو معروف بين المصريين، فلماذا كل هذه الكراهية رغم أن المبرر الذي جاء به الرجل لمصر يعد من المبررات المقبولة في المجتمع وهو الاستثمار، خاصة أن تاريخ الاستثمار العربي في مصر قديم، ولكن يبدو أن المصريين استشعروا بذكائهم الفطري أن الوافد هذا “طال عمره” لم يأتِ مصر مستثمرا بل جاء غازيا راشيا لنظام حاكم أعلن منذ اللحظة الأولى أنه تابع لمن يغدق عليه بالرز، وهو التعبير الذي أطلقه رأس النظام على الأموال، أرد هذا التركي أن يهيمن على قطاع الرياضة والإعلام في مصر بأمواله ليحول المصريين إلى رعايا في منطقة نفوذه هو وسيده الذي أرسلة، متصورا أن رجالات الحكم الباطش سيحمونه ويمكنونه، فأهانه الشعب وجرسوه ولم يحمه بطش نظام النخاسة الحاكم.

ربما تستطيع شراء الحكام وولاء القوادين والمنتفعين، ولكن الحقيقة الثابتة أن الشعب المصري عصي على العبودية والبيع.

تركي الشيخ طال عمرك.. تركي الشيخ طار أملك     

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه