ضد الحكومة ما بين خيال “الطيب” وقبلة “كامل الوزير”

 

 

في العام ١٩٩٢ عُرض فيلم ضد الحكومة للمخرج المصري عاطف الطيب، وهو عن مافيا التعويضات وفساد الحكومة. قصة الفيلم عن حادثة اصطدام حافلة مدرسة بقطار نتيجة خلل في نظام مزلقانات السكك الحديدية. يتولى القضية أحد محامي التعويضات (قام بالدور الممثل الراحل احمد زكي) الذي يُفاجأ أن من بين الضحايا ابنه من زوجته السابقة؛ فيستيقظ ضميره على وجعه الخاص، ويستطيع ببراعته أن يحول القضية إلى شأن عام تهتم به مؤسسات الدولة في مصر (يوم أن كانت لدينا مؤسسات لها حد أدنى من الاستقلالية).

في المحكمة الكل حاضر: الحكومة والمحامون والإعلام

 في محكمة عاطف الطيب كان هناك قاض استطاع أن يعي رسالة القضاء والقضاة، وإعلام أدرك مهمته في كشف الفساد وإصلاح الفساد؛ ثم كان الحضور الرائع في النهاية لنقابة المحامين المصرية واتحاد المحامين العرب متضامنين في القضية دفاعا عن مستقبل.

 الوطن متمثلا في أطفاله وبحثا عن طرق نجاة لهم.

ماذا تغير؟

  جرت في نهر الوطن مياه كثيرة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي حتى الآن، ومؤخرا كانت حادثة موت الشاب محمد عيد الشهير بشهيد القطار وإصابة زميله أحمد سمير سببا في إثارة العديد من التساؤلات لدي قطاعات كبيرة من الشعب المصري. كان أول تلك التساؤلات هو: هل هناك قدرة على محاسبة مسؤول عما حدث في صبيحة ذلك اليوم، وما أعقبه في صبيحة اليوم التالي حين دهس قطار حافلة صغيرة في صعيد مصر وراح خمسة من المصريين ضحايا؟

الحادثان اللذان وقعا خلال ٢٤ ساعة لم يجدا من يُحاسب عليهما أي مسؤول سياسي، بينما ذهب كامل الوزير (وزير النقل ورجل السيسي المفضل سابقا) إلى عزاء الشاب محمد عيد وقام بتقبيل رأس شقيقه. لم يذهب إلى عزاء ضحايا قطار الصعيد، ورأى الوزير أن في تقبيل الرأس والعزاء الفخم الذي تكلف به الحي تعويضا عن الشاب الذي قتلته سياسات النظام. ولم يسأل أحد الوزير الذي توقع أصحاب الخيال إقالته أو حتى استجوابه من قبل مجلس النواب.

من يحاسب من في غياب المؤسسات؟

ما الذي غاب بين المشهدين: مشهد فيلم ضد الحكومة الخيالي، ومشهد الواقع الحزين في حادثة قتل الشاب محمد عيد وحادثة قطار الصعيد وضحاياه الخمس؟

 لقد غاب المحامي الذي يستطيع أن يواجه سلطة القمع والفساد والاستبداد، فالمحامون الآن في عهد السيسي يذهبون إلى المحكمة للدفاع عن المتهمين فيأمر القاضي بإيداعهم السجن (حدث مع محامي علاء عبد الفتاح) أو يتم اختطافهم من أمام النيابة (كما حدث مع ماهينور المصري) أو يعتقلون ويسجنون بالسترة الصفراء كما حدث مع محمد رمضان.

 ولا تسأل في تلك الساعة عن نقابة المحامين التي صارت عاجزة عن الدفاع عن أعضائها فلم تعد قادرة على الدفاع عن قضية مهمة لها علاقة بإهمال الحكومة أو فساد سياساتها.

فرئيس قطار الإسكندرية لم يجعل خيار الموت من ضمن خيارات محمد عيد و زميله أحمد سمير من نفسه؛ بل هو ينفذ سياسات وزيره ورئيس الجمهورية الذي قال لوزيره منذ أيام: “اللي معاهوش (ليس معه) إيه يا كامل؟ فيرد كامل ببساطة: ما يلزموش يا افندم”. وهي سياسة السيسي الممتدة عبر سنوات حكمه الاكثر سوءا في تاريخ مصر.

إعلام الصوت الواحد ولا صوت يعلو فوق صوت الرئيس

لم يعد في مصر إعلام ولا صحفيون كهؤلاء الذين اختار منهم عاطف الطيب في فيلمه شخصية الصحفي؛ فإعلام مصر الآن على شاشات التلفزيون وفي صفحات الصحف والمجلات لا يفعل شيئا سوى أن يسبح بحمد الوزير والرئيس والمحافظ، فالجميع أصبحوا ذوي خلفية عسكرية. وفي الخلفية العسكرية الرئيس هو الدولة والدولة هي الرئيس والوزير والمحافظ من أصحاب الخلفية.

 أما نقابة الصحفيين فلا تسأل عن نقيبها ولا صحفييها؛ فالنقيب الذي يقبل إهانات للصحفيين، ويتصالح مع من سبهم وسب الصحافة لا وقت لديه لكي يدافع عن قضية مهمة، ولا لكي يشير إلى فساد الأمور ويفضح الأرقام التي يصرح بها الوزير أو غيره.

بل إن سجون السيسي تمتلئ بصحفيين من أعضاء نقابته كل تهمتهم أن انتقدوا أوضاع البلاد، أو حلموا بدخول انتخابات تشريعية قادمة (الصحفيون حسام مؤنس وهشام فؤاد وخالد داود مثلا، وحسن القباني ومحمود حسين).

 هل يستطيع قاض أن يستدعي الوزير إلى المحكمة؟

في الأساس لم توجه لوزير النقل أي تهمة تخص الحادثتين سواء حادثة إلقاء شابين من قطار أو دهس قطار لسيارة ميكروباص في اليوم التالي..

فقد خرج علينا الوزير بتصريحين في الموقفين قال في الأول: إن الشابين راشدان، ويدركان أن هناك جريمة للتهرب من دفع تذكرة القطار لأنها أموال الدولة، ولكن هذا لا يعني إلقاءهما من القطار .  لك أن تتعجب على أموال الدولة التي تعادل دولارا واحدا وكان ضحيتها شابان، وفي المقابل كان هناك أربعة تريليونات جنيه مصري، حسب تصريح السيسي في مشروعات كان أبرزها: أطول برج، وأكبر كنيسة وأوسع مسجد بالعاصمة الإدارية الجديدة، في حين انهار جزء من الطريق الإقليمي الجديد بفعل الأمطار. ولا تسأل هنا عن أموال الدولة التي ضاعت في ذلك.

الوزير يناقض تصريحات السيسي

ثم كان تصريح الوزير في الحادثة الثانية والذي قال فيه: إن إصلاح مزلقانات السكك الحديدية يحتاج إلى ١٠٠ مليار جنيه.  هذا التصريح الذي يخالف الرقم الذي قاله السيسي منذ عامين حين قال: إن إصلاح السكك الحديدية يحتاج إلى عشرة مليارات جنيه. كيف ارتفع الرقم هكذا في غضون سنوات قليلة، وكيف لمئة ألف مزلقان أن تتكلف ١٠٠ مليار جنيه؟ أي بحسبة بسيطة كل مزلقان يتكلف مليون جنيه، هل لنا أن نحلم بقاض يستدعي الوزير لمحاسبته على الإهمال وعلى الكذب؟

 ولكن هل كان الوزير الوحيد الذي كذب على الشعب وحنث بالقسم الذي أقسمه على الدستور أم سبقه السيسي وكل أركان نظامه في الحنث بالقسم والكذب على الشعب؟

إن كامل الوزير لم يكن الأول ولن يكون الأخير الذي يتهرب من المسؤولية ولا يجد مساءلة في المحكمة ولا في الإعلام ولا في مجلس النواب. فقد غاب الجميع: المحامي الذي يطلب وزيرا في المحكمة لمساءلته أو الإعلام الذي يقف خلف المحامي، أو القاضي الذي يجرؤ على استدعاء وزير في المحكمة..

إن مصر التي كانت مؤسساتها تتمتع بقليل من الاستقلالية في فيلم عاطف الطيب لم يعد لها وجود الآن في دولة الرجل الواحد الذي أصبح لقبه المفضل لدي المصريين ديكتاتور ترمب المفضل وصديق نتنياهو!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه