ضحيّتا طارق رمضان حسب الصحافة الفرنسية

 
    لم يحسم القضاء الفرنسي بعد تحقيقاته مع المفكر الإسلامي طارق رمضان في تهم الاغتصاب التي تقدّمت بها مُتّهِمتاه. وفيما تسهر وسائل الإعلام بأنواعها جرّاء هذا الخبر وتختصم، تشتدّ وتيرة القصف المعنوي في منابر وسائل التواصل الاجتماعي مع استمرار هذا الإيقاف، بين أغلبية لاعِنةٍ للرّجل وللإسلام والمسلمين على بكرة أبيهم، وقِلّةٍ مُدافعة دفاعا أعمى عنه قبل أن يحسم القضاء أمر التّهمة. أمّا القلّة المُتعقّلة فيكاد حُضورها يتوه وسط كل هذا اللّغط. وسواء كان الأمر مُدبّرا أو يحمل في طيّات أكاذيبه بعض الحقيقة، دعونا نتعرّف على الضحيتين كما قدّمهما الإعلام الفرنسي علّ حقيقتهما تُوضّح بعض دلالات المشهد.
الوجه الخطير
    تقدّمت المُدّعِية الأولى هندة العياري، مواطنة فرنسية أربعينية، مُطلّقة، أم لثلاثة أطفال، ابنة مهاجرَيْن تونسية وجزائري مطلّقين، بدعوى للنيابة العامة الفرنسية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي ضدّ المفكر السويسري طارق رمضان تتهمه فيها باغتصابها، وتعنيفها جنسيا وتهديدها بالموت في ربيع 2012. ووضّحت أن إفصاحها عن التهمة بعد هذه السنوات كان نتيجة خوف، لكنها استجمعت شجاعتها وقرّرت مواجهة المُتهم لأنها تُريد إنقاذ “ضحايا” أخريات، تُرجّح وجودهن بكثرة، وتنقذهن من عذاب الذاكرة لكشف الوجه “الخطير” لهذا الرجل المخادع. وقالت أيضا إن بطل كتابها الذي أصدرته منذ سنة قصدت به طارق رمضان. كتاب عنونته “اخترت أن أكون حرة”، تعرض فيه تجربتها في الحياة من مُحجّبة (سلفية) إلى سافرة، والعراقيل التي اعترضتها في الحياة وعلى رأسها “تلاعب” طارق رمضان بأفكارها ومشاعرها واغتصابها الذي كان صادما ولم تقدر على نسيانه.
 الكتاب وكاتبته لاقيا رواجا كبيرا جدا في المساحات الإعلامية، لا سيما وأن هندة العياري شحنت الكتاب بوابلٍ من الاتهامات المبطنة للإسلام والمسلمين، وقدمت نفسها بصفة المرأة الحرة التي عاشت في فرنسا، لكن في سجن الحجاب وطليقها السلفي، ثم قررت التمرد على هذا الخيار والهروب بأبنائها من المؤسسة الزوجية لتعيش تحت حماية الدولة الفرنسية المُنصفة للمرأة. وفي 14 من نوفمبر/تشرين الثاني 2015 نشرت صورها على فيس بوك بالحجاب وأخرى من دونه كردة فعل تعاطفية مع الحزن الذي ساد فرنسا على إثر الأعمال الارهابية في محيط ملعب باريس قبلها بيوم، قائلة إنها تركت الحجاب إلى الأبد. وبسرعة البرق أسست جمعية تدافع عن حقوق المرأة.
    لا يسمح المقام بنشر مقتطفات من كتاب هندة العياري، لكن الملفت للانتباه أن المضمون مشحون جدا، لا يكاد القارئ غير المُطلع على الثقافة الإسلامية يتخطى سطرا إلا وقد أصابه العجب المخلوط بالصدمة عن عدم معقولية وجود ثقافة ذكورية، مُتسلطة، انتهازية، لا يمكنها أن تتصالح مع الآخر طالما كانت تمارس طقوسها الدينية، بذلك الشكل. الملحوظة الثانية التي تجلب الانتباه هي كثرة التقلّبات الحاصلة في حياة الكاتبة منذ نشأتها، فالواضح أنها عاشت أزمة هوية حادة بين الأبوين خلّف هشاشة في شخصيتها ألقت بها في أحضان أوّل مُستقطب. ناهيك عن أن بعض القنوات الإعلامية كانت قد عرّجت بعد إصدار الكتاب على أن الكاتبة تلقّت متابعة نفسية كآثار للتجربة السلفية القاسية التي عاشتها. وهو الأمر الذي أكدته أخت طليقها في رسالة تقريع عرضها موقع “الأفكار الحرة” بعد صدور الكتاب تقول فيها “كل ما ذكرته خاطئ ومن وحي خيالك…أنا مدينة لك بأنك هجرتنا، أشكرك. أنت اخترت أن تكوني حرة، ونحن أحرار وسعداء من يوم طلاقك. لن أخرج إلى الأضواء، ولا نريد المزيد من المشاكل منك”.
العلاقة مع رمضان
    أمّا عن علاقتها بطارق رمضان فتفاصيل روايتها (المتضاربة أحيانا) متاحة على اليوتيوب في أكثر من قناة. وحسب روايتها تعرفت مثل كل المتابعات على “الواعظ” كما يحلو لها وللقنوات الفرنسية تسميته، وكانت في فترة انهيار نفسي فاسترعت تعاطفه (وتستشهد بمحادثات من حسابات مستعارة أحيانا) متراوحين بين القطع والوصل الذي انتهى بصدّ من طرفه. لم تفقد أمل الوصل بعده، وتسلّلت إليه من حساب جديد فأجابها باعتبار كليهما كان بباريس وقتذاك، فدعاها إلى غرفته في الفندق الذي أتاه مُحاضرا (محاضرة عن الإسلام) وهناك رأته لأول مرة، دعاها بعد التحية إلى حلويات “شرقية”، ثم ومن دون مقدمات انقضّ عليها كالوحش صابّا عليها جام سادية لم تر مثيلها طوال الليل، ثم تسترسل في تفاصيل مؤلمة.
ذلك كان أول وآخر لقاء، لأنها تغيبت حتى عن جلسة المواجهة الجمعة الماضية.
حكاية كريستال
المُدّعية الثانية (بعد أيام من دعوة هندة مثيلاتها للإفصاح عمّا اقترفه طارق رمضان في حقّهن) تقدمت إلى النيابة العامة ببلاغ ضد طارق رمضان تتهمه بالاغتصاب والعنف.
المُدّعية تحفّظت على هويتها وقدّمتها جريدة لوبس L’OBS باسم كريستال في مقال مُطول صدر يوم  2 من فبراير/ شباط كشفت فيه عن فحوى المواجهة التي تمت مع المُتّهم ثلاث ساعات من التحقيق، رفض على إثرها طارق رمضان التوقيع على المحضر.
المُدّعية تبلغ 45 سنة تعاني من إعاقة (ترفع سنوات العقوبة لو ثبتت التهمة) بعد تعرضها لحادث منذ سنوات أدى بها إلى الإفلاس والانفصال والدخول في مرحلة اكتئاب لم تجد له شفاء سوى اعتناقها الإسلام والارتماء في أحضان كتب المفكرين الإسلاميين وعلى رأسهم طارق رمضان في 2008. كانت من متابعاته على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن حذت العلاقة حذوا شخصيا، كان يشجعها ويفيدها معنويا لدرجة أنه يكاتبها عبر رسالات قصيرة من الفجر حتى الليل. وتطورت العلاقة حتى تزوجا عرفيا على سكايب نزولا عند رغبة رمضان، إضافة إلى وعدها بأن يعيشا معا لأنه منفصل عاطفيا عن زوجته. هكذا شرحت كريستال قصتها مستدلة بصور ومراسلات.
  دعاها لإجراء الزواج في مسجد بمدينة ليون الفرنسية يوم 9 من أكتوبر/تشرين الأول 2009 وقضاء ليلة معا في الفندق بمناسبة ذهابه لإلقاء محاضرة عن “فلسطين”. سافرت له، وقبل إلقاء محاضرته، صعدا إلى الغرفة. جلست على حافة السرير لكنها تفاجأت بتصرفات رجل مُتوحّش، مُغرق في الشبقية (ثم تستمر في أوصاف لتصرفات خادشة جدا للحياء). تقول كريستال إنه بعد أن أخمد موجة جنونه، تركها في الغرفة مُهددا إياها ألا تتفوه بكلمة حتى عودته من المحاضرة.
   حاولت التقدم ببلاغ بعد شهر لكن أعوان الشرطة سخروا منها، فانطوت على نفسها حتى انطلقت البلاغات ضده من هندة وغيرها من سويسرا (أيام كان أستاذا هناك). تُصرّ كريستال على حفظ هويتها لأنها تخشى تهديدات المسلمين ولا تستغرب أن يطعنها أحدهم بسكين “باسم الله”.
مع الإرهابي
   تفصيل صغير إضافي ربما يأخذه حسنو النوايا مأخذ الصدفة، يتزامن استجواب طارق رمضان هذا الأسبوع مع جلسة جديدة في محكمة باريس مع الإرهابي صالح عبد السلام، الناجي الوحيد من عمليات الملعب الفرنسي الإرهابية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015. وتمّ إحالة طارق رمضان لنفس السجن، ونفس الطابق الذي يقيم فيه الإرهابي معزولا وتحت الرقابة المشددة.
  هندة العياري، المدعية الأولى، ورغم اندماجها في تيار السلفية منذ 2006 تفوز بوظيفة عمومية في وزارة العدل الفرنسية في2012 (الوظائف العمومية في فرنسا تعتبر أكبر فاضح لعنصرية الدولة).
النيابة العمومية تتغافل عن تذكرة طائرة من لندن الى ليون يوم  9 من أكتوبر/تشرين الأول 2009 كان قدّمها محامو رمضان منذ مدة يقولون إنها تكشف عدم صحّة مزاعم مُتهمته باعتباره لم يكن موجودا وقتها.
  لو اكتفينا بفكر طارق رمضان وسلّمنا بأن الرجل ثروة معرفية “تُزعج حكومات الغرب” كما يعترف أحد خصومه (جاكوب كوهين)، وما أكثرهم، لما حسمنا الأمر على أنه مؤامرة. لكن طارق رمضان إنسان، والعصمة لا تكون إلا لنبيّ، والاتهامات ربما صدرت عن أشخاص مثيرين للشكوك، لكن احتمال صحّتها يبقى واردا مادام القضاء لم يقل كلمته بعد. فإذا صدق طارق رمضان وهن من الكاذبين، فذلك رجاء كل مسلم توسّم في الرجل ثقة وإذا كذب وهن من الصادقين، فتلك ستكون نكسة تاريخية بحجم حرب. وسيكون قد اغتصب اسم عائلته والإسلام والمسلمين جميعا (لأنه رمز، لا حالة فردية).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه