صناعة تاريخ غير مزيف: من فلويد إلى بوعزيزي وخالد سعيد

 

صناعة التاريخ، أياً كانت خلاصته في البناء أو الهدم، ليس دور الزعماء فقط، ولا قادة الجيوش في المعارك الكبرى، ولا دعاة الثورات والمصلحين وحاملي مشاعل التغيير، ولا القادة الدينيين والنخب والعقول المحركة للمجتمعات والجماعات الإنسانية، ولا كل الشخصيات البارزة التي حفر التاريخ أسماءها في سجلاته.

هناك أفراد عاديون يقومون بدور أيضاً، في صنع التاريخ في بلدانهم ومجتمعاتهم، وقد يكون هذا الدور أعمق أثراً، وربما يمتد إلى مناطق أوسع في العالم، وهى زعامات تتحالف في صنعها: الصدفة، والظلم، والفساد، والخلل في النظام العام حتى لو ضرب ديمقراطيات كبيرة وعتيدة.

وهذا النوع من التاريخ العفوي، هو الأصدق، فلا يتسلل إليه التزييف والتزوير، ولا يكتبه صانعه بنفسه أو عبر حاشيته، إنما يسطره فعله وحركته، أو القدر والمصير الذي يصير إليه، إنه الزهد من غير قصد في المكانة والدور والشهرة للإنسان البسيط الذي يجد نفسه على رأس الأحداث التاريخية.

بالتالي فإن آحاد الناس ليسوا مجرد أرقام في سجلات المواليد في مجتمعاتهم، وليس بالضرورة أن يكون التاريخ حاضراً في أذهانهم وهم يتخذون خطوات غير اعتيادية في لحظة ما، أو وهم يتعرضون إلى شيء ما لم يكن في حسبانهم، التصرفات غير المحسوبة التي تصدر منهم، أو الصدف التي تقف وراء أفعالهم، أو المواقف العصيبة التي يجدون أنفسهم فيها، قد تكتب فجأة أحداثاً غير متوقعة تفرض تغييرات لم تكن متوقعة في أوطانهم والعالم، وتدخل التاريخ من أوسع أبوابه.

هذا يؤكد أن الإنسان لم يُخلق عبثاً، ليس دوره الطعام والشراب والتناسل، ثم الغياب تحت التراب، الإنسان له مهام ووظائف سامية في الحياة بأن يكون طاقة إيجابية في التعمير والتغيير، في الصعود والارتقاء، وبطبيعة الحال لن يستطيع كل البشر صناعة التاريخ وتخليد أسمائهم في صفحاته، لكن يتوجب عليهم أن يتبنوا السلوك القويم دوماً، وأن يقفوا في الجانب الصحيح من الحياة وعند الاختيار، وألا يسمحوا باستلاب عقولهم أو مسخهم وتحويلهم لكائنات مدجنة، وألا يتحولوا بإرادتهم إلى دمى يجري التلاعب بها، وألا يعيشوا مُغرراً بهم، يجب أن يكونوا عقلاء ناضجين واعين، ويصيروا قوة دفع نحو التغيير للأصلح، حتى يصنعوا الفارق بينهم وبين المخلوقات مسلوبة العقل والإرادة.

أفراد كثيرون يشاركون في بناء التاريخ بشكل أو بآخر، لكن قليلين يتحولون إلى أيقونات، ويتصدرون الصفحات، ويخلدون في ذاكرة الإنسانية، وعنوان هذا المقال ينتخب ثلاثة منهم، صارت أسماؤهم علامات يصعب محوها حتى لو اختلف البعض معهم، أو كان هناك سعى لتشويه صورتهم، أو لم يكن لهم ذكر ودور مهم في الحياة، أو كان سجلهم الشخصي فيه نقاط غائمة، كل هذا يتضاءل بجانب التاريخ الذي صنعوه بالصدفة التي تحدث نادراً.

أحدث هؤلاء الأمريكي الأسود جورج فلويد، ويليه نزولاً في الأحداث الكبرى الملهمة التونسي محمد بوعزيزي، وثالثهم المصري خالد سعيد. والثلاثة رحلوا غدراً أو كمداً، فلويد قبل أيام هذا العام 2020، والاثنان الآخران في العام 2010، وبهذا يكون الثلاثة قد دشنوا أحداثاً مفصلية في نهاية العقدين الأول والثاني من هذه الألفية.

مقتل فلويد يشعل أمريكا

الأمريكي جورج فلويد قُتل على يد شرطي أمريكي أبيض(25 من مايو/أيار 2020)، وهى جريمة بشعة فجرت بركاناً من الغضب ضد العنصرية والتمييز والتطرف من عناصر الشرطة البيضاء تجاه السود، الاحتجاجات تشمل في جوهرها تنديداً بالمظالم والأزمات في المجتمع الأمريكي وفي ظل إدارة ترامب خصوصاً التي عمقت الانقسام وساهمت في تصعيد التطرف اليميني، وإذا كان هذا الرئيس قد جلب أموالاً من بلدان النفط في الخليج، وعلى رأسها السعودية، فأنعش الاقتصاد، فإن هذا فقط ما يجعله صامداً ويدفع مؤيديه للتمسك به حتى اليوم.

صدفة التاريخ جعلت فلويد أيقونة، واختارته ليصنع فصلاً جديداً في تاريخ النضال ضد ميراث العنصرية، وغياب العدالة، وآثار هذا النضال تمتد إلى مناطق عدة في العالم، فالمظالم أياً كانت طبيعتها تساهم في التوحد الإنساني ضدها، والعنصرية لا تقتصر على أمريكا وحدها، فهى آفة بشرية قديمة، وهى ليست فقط عنصرية الأبيض ضد الأسود، فلها أشكال كثيرة، الغني ضد الفقير، والمتعلم ضد الأمي، والمثقف ضد الجاهل، والمتقدم ضد المتخلف، وسنجد أن فقراء يمارسون العنصرية ضد بعضهم بعضاً، وكل الأطراف الضعيفة في هذه المنظومة تدخل مع بعضها في عداء وتمييز أيضاً.

 المجتمع المنفتح المتسامح المتسامي الناضج يندر أن يكون موجوداً في العالم، ولم يكن موجوداً في كل مراحل التاريخ، إلا قليلاً في زمن الأنبياء والرسل، وكان خاصاً بالجماعات التي آمنت بهم وتواجدت حولهم خلال بعثتهم.

وعلاج العنصرية بكل أوصافها وصفاتها وتعريفاتها وطبائعها لدى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة وضعه القرآن الكريم في جزء من آية: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ومن أسف أن أول المخاطبين بالعلاج الإلهي العظيم، وهم المسلمون، يتورطون في ممارسات عنصرية تجاه بعضهم بعضاً، ثم هم يقعون فريسة للتمييز والانتهاكات من أمم أخرى.

لماذا تجهد البشرية نفسها في البحث عن حلول للعنصرية بينما الحل الجذري في الكلمات الخمس في القرآن؟ بالطبع، لو كان المسلمون يطبقون هذه الهدية العظيمة لقدموا النموذج الذي يتأسى به الأمريكي والأوربي والهندي والصيني وبقية الأمم على الأرض التي ستعمها المحبة والمساواة والسلام.

نار بوعزيزي

عندما أشعل التونسي محمد بوعزيزي النار في نفسه، بسبب التضييق عليه من البلدية في لقمة عيشه التي يتكسبها من بيع الخضراوات والفاكهة على عربة بسيطة، (17 من ديسمبر/كانون الأول 2010) لم يكن في ذهنه أنه سيشعل نار ثورة شعبية في تونس تحرق الرئيس زين العابدين بن علي، وتتسبب في سقوط نظامه الاستبدادي الذي عجزت المعارضة بكل أطيافها عن التأثير فيه أو دفعه للإصلاح.

 وكل تونسي يمتلك حريته وإرادته اليوم مدين لهذا الشاب بما يعيشه من مناخ ديمقراطي، والتوانسة مطالبون بالحفاظ على دم بوعزيزي، حتى لا يذهب هدراً إن أشعلوا صراعات سياسية عبثية بينهم كما هو حاصل حالياً، فهم بذلك يهيئون الأجواء لمن يريد العصف بهم وبديمقراطيتهم في الداخل والخارج، وقد ينتهي الأمر بإسقاط الديمقراطية الناشئة، وإعادة البلاد إلى ما كانت عليه خلال حكم (بن علي). ثم فيما بعد سيعضون جميعاً أصابع الندم، سواء من يركب منهم موجة الوطنية المتطرفة، أو من يدير الحكم من دون تقدير حجم المخاطر المحيطة ببلدهم وتجربتهم في الحكم الديمقراطي.

شرارة بوعزيزي الفرد العادي الذي كان منتهى أمله كسب عدة دنانير كل يوم ينفق منها على نفسه ومن يعولهم انتشرت من دون قصد ولا تخطيط منه كالنار في الهشيم لتطال المنطقة العربية الغارقة في الاستبداد والطغيان فحركت فئات الوعي في الجمهور لاستعادة الحرية والكرامة لشعوبها والمطالبة بالعدالة الاجتماعية المهضومة ومجابهة الفساد والتخلف والقمع واسترداد الأوطان التي تحولت إلى ملكيات خاصة للحكام، وإذا كان النتائج مخيبة للآمال فإن الثورات سجلت سوابق في التغيير الشعبي لن تزول أبداً.

روح خالد سعيد

ربيع تونس أعاد للشاب خالد سعيد قيمته في مصر، ودفع رفاقه ومحبيه وكل المقهورين لاعتبار ما جرى له من القتل (6 من يونيو/حزيران 2010) على أيدي عناصر من الشرطة سبباً  كافياً للخروج يوم (25 من يناير/كانون الثاني 2011) للاحتجاج على سلوك الشرطة وتوجيه رسالة سياسية بأن كيل الانتهاكات قد فاض، ويجب أن يتوقف.

رسالة رفاق خالد سعيد اتسعت وصارت مطلباً برحيل النظام، وبالفعل انتهى زمن مبارك وعائلته في الحكم، وبدأت مصر زمناً ثورياً جديداً، صحيح أنه أخفق، لكن روحه لم تندثر، والأسوأ حصل في البلدان الأخرى التي واجهت الإخفاق ودخلت في احتراب في ليبيا واليمن وسوريا، والربيع يتفاعل في موجته الثانية في السودان والجزائر ولبنان والعراق، لكن يصعب الحكم على هذه الموجة بالنجاح أو الفشل بعد.

التاريخ الذي صنعه هذان الشابان البسيطان في تونس ومصر أن دمهما كان النهر الذي روى الصحراء القاحلة فأخضرت وأنبتت وطرحت أفكاراً وإقداماً وحماساً لمواجهة الديكتاتوريات وكسرت كل أشكال الخوف والترهيب وأكدت أن الشعوب قوة تغيير هائلة متى توافرت الظروف لتقوم بدورها.

من المذهل أن تتم كتابة التاريخ عبر أفراد عاديين يقدمون خدمات عظيمة لشعوبهم وأوطانهم بأرواحهم من دون مقابل، وفي الوقت نفسه هناك آخرون يضحون، لكن التاريخ لا يستجيب لأفعالهم، أولا تتهيأ اللحظة لتحرك التاريخ والقيام بدوره، إنها عملية غامضة لا تفسير لها سوى أن القدر يريد لهذا الحدث أن يكون خالداً ويفجر شيئاً كبيراً، ويريد لحدث آخر أن يظل فردياً لا يتجاوز حدوده الضيقة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه